مفهوم الاضطرار في القرآن الكريم
1- مفهوم الاضطرار
الاضطرار هو بلوغ الإنسان حدًا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، كالمضطر للأكل واللبس بحيث لو بقي جائعًا أو عريانًا لمات، أو تلف منه عضو، وهذا يبيح تناول المحرم .
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾
البقرة:١٧٣
إنما حرم الله عليكم ما يضركم كالميتة التي لم تذبح بطريقة شرعية، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، والذبائح التي ذبحت لغير الله. ومِنْ فَضْلِ الله عليكم وتيسيره أنه أباح لكم أكل هذه المحرمات عند الضرورة. فمن ألجأته الضرورة إلى أكل شيء منها، غير ظالم في أكله فوق حاجته، ولا متجاوز حدود الله فيما أُبيح له، فلا ذنب عليه في ذلك.
2- كلمة الاضطرار
في
القرآن الكريم
وردت كلمة (اضطر) في القرآن الكريم ٨مرات. والصيغ التي وردت هي:
– الفعل الماضي
ورد ٥ مرات
قال الله تعالى:
﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
البقرة:١٧٣
– الفعل المضارع
ورد مرتين
قال الله تعالى:
﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾
لقمان:٢٤
– اسم مفعول
ورد مرة واحدة
قال الله تعالى:
﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾
النمل:٦٢
وجاء الاضطرار في القرآن الكريم بمعنى الحاجة، والضرورة، والإلجاء.
3- الكلمات ذات الصلة
بكلمة الاضطرار
– الحاجة
الحاجة هي ما يترتب على عدم الاستجابة إليها عسر وصعوبة .
قال الله تعالى:
﴿ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ﴾
يوسف: 68
– المشقة
المشقة هي الشدة التي تلحق النفس والبدن.
قال الله تعالى:
﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ﴾
القصص :27
– الرخصة
تغيير الحكم الأصلي إلى حكم آخر أيسر منه لوجود عارض معين.
قال الله تعالى:
﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾
الأنفال: 66
– الإكراه
الإكراه حمل الغير على ما يكرهه بالوعيد الشديد.
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ﴾
طه :73
– الحرج
الحرج يطلق على كل ما تسبب في الضيق، سواءٌ أكان واقعًا على البدن، أم على النفس، أم عليهما معًا .
قال الله تعالى:
﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾
المائدة: 6
4- أدلة اعتبار الاضطرار
في
القرآن الكريم
إن مما جعل لموضوع الاضطرار اعتبارًا في الشريعة الإسلامية مجموعة من آيات القرآن الكريم وهي كما يأتي:
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
البقرة:١٧٣
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
المائدة:٣
﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴾
الأنعام:١١٩
﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
الأنعام:١٤٥
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
النحل:١١٥
ويلاحظ على هذه الآيات القرآنية أنها وردت في باب المحرمات من الأطعمة.
ولقد ورد تذييل آيات الاضطرار بالمغفرة والرحمة وذلك في بضع آيات من القرآن الكريم ، مثل
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
البقرة:١٧٣
وقد يتساءل البعض تساؤلًا مفاده: ما هي علاقة المغفرة والرحمة في مثل هذه المواضع، فالمغفرة والرحمة تقتضيان ذنبًا فعله صاحبه ثم يتوب، ومن ثم يقبل الله عز وجل توبته فينعم الله تعالى عليه بالمغفرة والرحمة، وللإجابة عن هذا التساؤل.
– رحيمٌ
لأن الله سبحانه وتعالى يرحمٌ الذي أجبرته ظروف الضرورة ، وذلك بإباحة أكل المحرم .
– غفورٌ
لأن الله سبحانه وتعالى يغفر لمن أعطاه رخصة للضرورة التي ألجأته على تناول المحرم
5- صور الاضطرار
في
القرآن الكريم
من صور الاضطرار التي ذكرها القرآن الكريم الأتي
أولًا – أكل المحرمات
الأصل في الأطعمة التي ذكر الاضطرار فيها هو التحريم، ولا تكسر قاعدة التحريم إلا عند الاضطرار، فيباح للمضطر أن يأكل لحم الخنزير وغيره مما لا يحل من الحيوانات من باب المحافظة على الحياة، والصيانة للنفس الإنسانية من الهلاك والموت.
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
البقرة : 173
ثانيا – شرب المحرمات
أ – شرب المحرم كالخمر
يباح تناول شرب المحرم كالخمر في حالة الاضطرار. مثل من أشرف على الهلاك من البرد ولم يجد ما يدفع به هذا الهلاك غير كوب أو جرعة من الخمر .
قال الله تعالى:
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾
النساء :٢٩
– التداوي بالمخدرات
المخدرات تستعمل في مجال الطب لأمرين، وهما:
1- استعمال المخدر في العمليات الجراحية
وقد يكون التخدير جزئيًا أو كليًا للمريض، وهذا النوع جائز؛ لأن فيه تفويتًا على المريض للإحساس بالألم الشديد الذي يصيبه أثناء العملية الجراحية، فإباحته من باب الضرورة.
2- استعمال المخدر لتسكين الآلام والأوجاع
استعمال المخدر مع الأدوية الطبية بنسب معينة لتسكين الآلام والأوجاع الشديدة، فهذا جائز ويباح التداوي به للحاجة والحفاظ على النفس من لحوق الضرر بها أو الهلاك
قال الله تعالى:
﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾
الحج : 78
حَرَج أي ضيق بأن سهله عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة والفطر للمرض والسفر.
ثانيًا: قتل النفس
قال الله تعالى:
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾
النساء:٢٩
﴿ ولا تقتلوا أنفسكم﴾ بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها كأن يكون الإنسان في حالة اضطرار وقد أباح له الشرع ما كان محرمًا من الأطعمة أو الأشربة، فإذا قصر في ذلك، ولم يأخذ بالرخصة، فإنه يعرض نفسه للهلاك، فكأنما أصبح هو السبب في قتل نفسه ، ﴿ إن الله كان بكم رحيما ﴾ في منعه لكم من ذلك.
قال الله تعالى:
﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾
البقرة:١٩٥
وفعل ما هو سببٌ موصلٌ إلى تلف النفس أو الروح
ثالثًا: التلفظ بالكفر ونحوه
قال الله تعالى:
﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
النحل:١٠٦
إنما يفتري الكذب مَن نطق بكلمة الكفر وارتدَّ بعد إيمانه، فعليهم غضب من الله، إلا مَن أُرغم على النطق بالكفر، فنطق به خوفًا من الهلاك وقلبه ثابت على الإيمان، فلا لوم عليه .
ويخلص من هذا إلى أن إباحة ما كان محرمًا من الأطعمة والأشربة والأدوية، وقتل النفس، والتلفظ بالكفر هي صورٌ لحالة الاضطرار التي ترخص للإنسان المضطر وتبيح له أن يأخذ بها، ويزيل عنه الضرر الحال الذي ألم به.
6- حالة الاضطرار من
بعض مقاصد الشريعة
إن مراعاة حالة الاضطرار ينتج عنها تحقيقٌ لبعض مقاصد الشريعة الإسلامية، وتفصيل هذه المقاصد وبيانها كما يأتي:
أولًا – التيسير والتخفيف ورفع
الحرج والمشاق عن المكلفين
إن الله سبحانه وتعالى عندما أحل الحلال وحرم الحرام، قد جعل الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص شرعي على تحريمه، فالحلال كثير وواسع، أما الحرام فهو معدود وضيق.
قال الله تعالى:
﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ . وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾
الأنعام:١١٨-١١٩
ففي هاتين الآيتين يأمر الله تعالى المسلمين أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، فكل ما ذكر الذابح عليه اسم الله تعالى كان حلالًا إن كان مما أباح الله تعالى أكله، ثم أنكر سبحانه وتعالى عليهم عدم أكلهم مما سموا عليه بعد أن أذن الله تعالى لهم بذلك ، و قد فصل لهم ما حرم عليهم ، ثم استثنى الله تعالى من هذه المطعومات المحرمة عليهم ما كان في حالة الضرورة؛ وذلك لأن الضرورة تحلل الحرام.
إن الشريعة الإسلامية مبنية على التيسير والتخفيف عن أفراد الأمة الإسلامية، ورفع الحرج والمشاق عنهم، وقد وردت كثير من النصوص القرآنية على هذا المقص ، ومنها
قال الله تعالى:
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾
البقرة:١٨٥
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ﴾
النساء:٢٨
﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾
الحج:٧٨
فهذه النصوص وغيرها تفيد أن الله عز وجل لا يريد لنا المشقة والتعسير والوقوع في الحرج؛ بل يريد لنا التيسير والتخفيف ورفع الحرج لأداء العبادة التي فرضها سبحانه وتعالى علينا وأدائها على أكمل وجه.
ثانيًا: الحفاظ على الضروريات الثلاث
الضروريات جمع كلمة ضروري، و هي الأمور التي لا بد منها في قيام مصالح الدنيا، وهي الضروريات الثلاث ، وهي متمثلة في النفس والعقل والنسب.
فالإنسان المضطر عندما تلجئه الضرورة من مخمصة، أو جوع شديد، أو إكراه، أو خوف على النفس من الهلاك، فتلجئه إلى تناول الحرام وأكله بشرط أن يأكل ما يسد به رمقه ويبقيه على قيد الحياة.
قال الله تعالى:
﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
البقرة:١٧٣
﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
المائدة:٣
فمراعاته لحكم الاضطرار الذي هو عليه أباح الله تعالى هذه المحرمات إبقاءً للنفس ودفعًا للهلاك عنها فجعله يسعى إلى إنقاذ نفسه من الموت.
ثالثًا: جلب المصالح للعباد
ودرء المفاسد عنهم
إن الشريعة الإسلامية مبنية أيضًا على جلب المصالح للعباد ودفع المفاسد عنهم، وقد تواترت كثير من نصوص القرآن الكريم على ذلك، ومنها
قال الله تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾
الأنبياء :١٠٧
والمعنى: أي وما أرسلناك بالقرآن وأمثاله من الشرائع والأحكام التي بها مناط السعادة في الدارين إلا لرحمة الناس وهدايتهم في شئون معاشهم ومعادهم.
وقال في صفة القرآن
قال الله تعالى:
﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ﴾
فصلت:٤٤
وقال عن الأوامر والنواهي
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾
النحل:٩٠
حيث تعد هذه الآية جامعة لكل الأوامر والنواهي. فكل مسألة مشتملة على عدل أو إحسان أو إيتاء ذي القربى فهي مما أمر الله به. وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر أو بغي فهي مما نهى الله عنه.
ويخلص من هذا إلى أن مراعاة حكم الاضطرار يحقق مقاصد الشريعة الإسلامية من التيسير والتخفيف ورفع الحرج والمشاق عن المكلفين، ومن الحفاظ على الضروريات الثلاث: النفس والعقل والنسب، ومن جلب المصالح ودرء المفاسد.
7- ضوابط الاضطرار
للاضطرار شروط وضوابط محددة ليكون العمل بحكم الضرورة شرعيًا، وتفصيل هذه الضوابط فيما يأتي:
أولًا: اليقين بوقوع الضرر
إن من شروط العمل بهذه الرخصة التي أباح الله عز وجل الأخذ بها للإنسان المضطر أن يكون متيقنًا من وقوع الضرر ولحوقه به، فاليقين هو إدراك الشيء من غير احتماليته لشيء آخر.
قال الله تعالى:
( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
النحل:١١٥
أن الاضطرار حالة خارجة عن سيطرة الإنسان التي يعلم من خلالها اليقين بحصول الضرر، فيشترط في هذه الضرورة أن تكون قائمة وموجودة.
ثانيًا: تعذر الوسائل المباحة في إزالة الضرر
إذا كانت الوسائل المشروعة والمباحة في إزالة الضرر متعذرة، ولم يبق إلا الوسيلة المحظورة، فإنه حينئذٍ يتعين على الشخص المضطر ارتكاب المحظور كوسيلة لدفع هذا الضرر الواقع، وفي المقابل يفهم أنه إذا أمكن إزالة هذا الضرر بوسيلة مشروعة امتنع ارتكاب الوسيلة المحظورة.
قال الله تعالى:
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾
التغابن:١٦
واحذروا الله أيها المؤمنون وخافوا عقابه، وتجنبوا عذابه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، والعمل بما يقرب إليه ما أطقتم وبلغه وسعكم .
ثالثًا: ارتكاب أخف الضررين
أن الإنسان إذا ألمت به ضرورة ، فيجب على المضطر ارتكاب أخف الضررين لينقذ نفسه من الهلاك ، فإن الإنسان المضطر إلى أكل الميتة مثلًا أمامه ضرران هما:
1- هلاك نفسه
قال الله تعالى:
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾
النساء:٢٩
وهو ضرر كبير وعظيم.
2- تناول المحظور
قال الله تعالى:
﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾
البقرة: 173
وهو ضرر أدنى وأخف من الأول، فيأخذ به المضطر، فيكون بذلك قد جلب منفعة أكبر من مفسدة الضرر الأول.
رابعًا: الضرورة تقدر بقدرها
يتمثل هذا الضابط في ارتكاب المحظور أو تناول المحرم في حالة الاضطرار بقدر الضرورة الملجئة بدون زيادة أو نقصان
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
البقرة:١٧٣
والمعنى: أن من دعته الضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرمات المذكورة في الآية، ، غير باغٍ في أكله فوق حاجته ، ولا متعديًا بأكل المحظور وهو يجد غيره من المباح ، فلا ذنب عليه في ذلك.
قال الله تعالى:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
المائدة:٣
والمعنى: أن من دعته الضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرمات المذكورة في الآية، بسبب الخمص وهو ضمور البطن من شدة الجوع، وكان هذا المضطر غير مائلٍ للحرام بشكل متعمد ومقصود فيه للمعصية، فإن الله تعالى له غفور رحيم.
أي أن المضطر يأكل من المحظور بالقدر الذي يزيل عنه الضرورة التي ألجئ إليها فقط، ولا يزيد على ذلك فيدخل في دائرة التلذذ وقضاء شهوة الأكل، ولا ينقص من ذلك فيؤدي إلى هلاك نفسه.
ويخلص من هذا إلى أن ضوابط الاضطرار متمثلة في حصول اليقين أو غلبة الظن بوقوع الضرر، وتعذر الوسائل المشروعة في إزالة الضرر الواقع، ووجوب تقدير الضرورة بقدرها دون زيادة أو نقصان، وبارتكاب أخف الضررين لينجو بنفسه
8 – حقيقة الاضطرار
أن الاضطرار هو الاحتياج الشديد، فالمضطر قد ألجأته الضرورة إلى فعل المحرم.
قال الله تعالى:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
المائدة:٣
ففي هذه الآية سرد الله تعالى مجموعة من الأطعمة المحرمة التي لم يحرمها جل جلاله إلا صيانةً لعباده، وحمايةً لهم من الضرر والخبث الموجود فيها، وهذه المحرمات هي: الميتة وهي التي ماتت بدون ذبح شرعي، وكذلك الدم المسفوح، ولحم الخنزير، والمنخنقة التي ماتت بالخنق، والموقوذة التي ماتت بالضرب، والمتردية الساقطة من علوٍ فماتت، والنطيحة التي نطحتها غيرها فماتت، وإذا ماتت بعض الحيوانات بسبب أكل السبع من أسد أو نمر أو طير مفترس ونحوه، فإنها لا تحل أيضًا، ثم بين الله عز وجل في ختام الآية أنه سبحانه قد أكمل دين الإسلام بتمام النصر، وإكمال الشريعة. ، ثم عاد الله تعالى إلى الحديث عن المحرمات السابقة في أول الآية، فذكر أن من ألجأته الضرورة إلى تناول شيء من هذه المحرمات، وهو في حالة مخمصة أي: في حالة جوع شديد، حتى إن البطن ليضمر من قلة الغذاء الوارد إليه، فمن اضطر فأكل منها فلا إثم عليه؛ لأن الله تعالى غفور رحيم.
قال الله تعالى:
﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴾
الأنعام:١١٩
أن هذه الآية تضمنت استثناء حالة الضرورة حفاظًا على النفس من الهلاك، والاستثناء من التحريم إباحة.
ويخلص من هذا إلى أن حقيقة الاضطرار تكمن في خوف المضطر على نفسه من الهلاك، فمن ألجأته الضرورة إلى أكل المحرم، فأكل فلا إثم ولا حرج عليه، كما يجب على المضطر تناول المحرم بمقدار ما يسد به رمقه ويبقيه على قيد الحياة، فيأمن معه الموت
قال الله تعالى:
﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾
البقرة:١٩٥
فإن ترك المضطر تناول المحرم حتى مات، فقد وقع في المعصية؛ لأنه ألقى نفسه إلى الهلاك، وهذا منهيٌ عنه؛ ولأنه كان قادرًا على إحياء نفسه بما أباحه الله تعالى له، فلزمه ذلك، كما لو كانه معه طعامٌ حلال .
9- أسباب الضرورة
أن أسباب الضرورة أربعة هي:
أ -الإكراه
الإكراه هو جعل الإنسان على فعل مالا يرضاهاﷲ، وهو ينافى المحبة والرضا . ويشترط فى الإكراه ما يسبب الهلاك للمكره أو يدخل عليه ضررا كبيرا كالقتل أو القطع أو الضرب المبرح أو السجن الطويل
قال الله تعالى:
﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
النحل 106
إنما يفتري الكذب مَن نطق بكلمة الكفر وارتدَّ بعد إيمانه، فعليهم غضب من الله، إلا مَن أُرغم على النطق بالكفر، فنطق به خوفًا من الهلاك وقلبه ثابت على الإيمان، فلا لوم عليه،
ب – الدفاع الشرعي
يقصد بالدفاع الشرعي هو رد إعتداء من إنسان أو حيوان على النفس أو
العرض أو المال، سواء وقع الإعتداء على الشخص نفسه أو على أخيه المسلم.
قال الله تعالى:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾
البقرة:216
فرض الله عليكم -أيها المؤمنون- قتال الكفار، والقتال مكروه لكم من جهة الطبع؛ لمشقته وكثرة مخاطره .
ت – الجوع
يعتبر الجوع أهم أسباب الضرورة وأكثرها تعرضا للإنسان. فمن اشتدت عليه وطأة الجوع ووصل به إلى حد يخاف معه الهلاك ولم يجد من الحلال ما يحفظ به مهجته، فله أن يزيل هذا الجوع بطعام حرام سواء كان حراما لذاته كالميتة ولحم الخنزير أو كان حراما لغيره كالأكل من مال غيره إذا لم يكن مضطرا مثله . ويلحق بالجوع هو العطش والعرى .
قال الله تعالى:
﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
المائدة:3
ث – السفر
السفر من الأشياء التى تسبب الوقوع فى الضرورة بمعناها العام، وبعبارة أدق يعتبر السفر من أسباب التخفيف. فجعل السفر نفسه علة للفطر والقصر والجمع بغض النظر عن حصول المشقة الحقيقة لكل مسافر .
قال الله تعالى:
﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾
البقرة :185
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾
النساء: 43
أحدث التعليقات