مفهوم الهم بالشيء  في القرآن الكريم

 

1- مفهوم الهم بالشيء

إجماع النفس على فعل شيء قبل أن يفعل، من خير أو شر .

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ﴾

المائدة : 11

ويظهر أن الهم متعلق بالنية والإرادة قبل وقوع الفعل، فإن فعله كان حقيقة واقعة، وإن لم يفعله يبقى في دائرة النية والرغبة والإرادة.

2- الهم بالشيء

      في

 القرآن الكريم

ورد (الهم بالشيء) في القرآن الكريم(٨) مرات. والصيغ التي وردت، هي:

– الفعل الماضي

ورد  ٨ مرات

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾

يوسف :٢٤

وجاء الهم بالشيء في القرآن بمعنى الإرادة

قال الله تعالى:

﴿ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ﴾

التوبة: ٧٤

أي: أرادوا قتل الرسول وإخراجه.

3- الكلمات ذات الصلة

    بكلمة الهم بالشيء

– القدرة

القدرة هي القوة التي تمكن الحي من الفعل وتركه بالإرادة .

قال الله تعالى:

﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ ﴾

النحل : 75

أي : رجلا مملوكًا عاجزًا عن التصرف .

– العزم

العزم هو تصميمٌ وإرادةٌ قويةٌ للفعل .

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا

طه : 115

4- مجالات الهم بالشيء

بين القرآن الكريم مجالات للهم بالشيء، منها الأتي:

أولًا – الهم في ميادين القتال

إن ساحات القتال من أعظم المواطن التي يظهر فيها صدق الصادقين؛ ولايثبت إلا أناسٌ يحبون الموت كما يحبون الحياة، فيبذلون حياتهم في سبيل الله في هذا الموطن تصاب بعض النفوس بعوارض نفسيةٍ شديدةٍ؛ من الخوف، والقلق، والهم بالفرار، أما الكافر والمنافق فما ثم إلا الظنون السيئة، وأما المؤمن فعلى قدر استعانته بالله يثبته الله، وفي يوم أحدٍ كان لطائفةٍ من المؤمنين شأنٌ، فأحدٌ لم تكن معركةً في الميدان وحده، إنما كانت معركةً كذلك في الضمير.

قال الله تعالى:

﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾

آل عمران: ١٢٢

والطائفتان: هم حيان من الأنصار، هموا بأمر فعصمهم الله من ذلك، وهمهما في الآية مجرد حديث نفس وخاطر قلبيٍ، بالتراجع عن لقاء المشركين يوم أحدٍ، وترك النبي صلى الله عليه وسلم ،  دعاهم إليه الضعف والوهن، ثم دفعه المولى سبحانه عنهما بفضله وعنايته. فانتهى همهم هنا في صدورهم؛ إذ لم يتحقق عزمهم على الأمر، فكان همهم بالفشل مجرد حديث نفس خطر على أذهانهم؟

ثانيًا – الهم في ميادين الأخلاق

إن تربية المسلم نفسه على الفضائل من أوجب ما يجب عليه، وهو مطالبٌ بتهذيبها وتزكيتها، وأن يجنبها مداخل الشيطان التي يلج منها. والدنيا قد تتزين للعبد، ولكونه خلق ضعيفًا فقد ترديه نفسه الأمارة بالسوء والشيطان والهوى في شباك المعصية وفي ظل غياب الرقيب – في نفسه- فلم يغب الرقيب الأعلى سبحانه إنما غاب الإيمان في قلبه حين هم بمعصية الله، وفي قصة يوسف عليه السلام يقص الله علينا أحداث ذلك الهم وما آل إليه.

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾

يوسف: ٢٤

ولقد مالت نفسها لفعل الفاحشة، وحدَّثت يوسفَ نفسُه حديث خطرات للاستجابة، لولا أن رأى آية من آيات ربه تزجره عمَّا حدثته به نفسه، وإنما أريناه ذلك؛ لندفع عنه السوء والفاحشة في جميع أموره، إنه من عبادنا المطهرين المصطفَين للرسالة الذين أخلصوا في عبادتهم لله وتوحيده.

قال الله تعالى:

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ﴾

النازعات: ٤٠-٤١

ويوسف صلى الله عليه وسلم هم همًا تركه لله ؛ ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء ، لأنه من الذين أخلصوا الطاعة الله .

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾

الأعراف: ٢٠١

إن الذين اتقوا الله مِن خلقه، فخافوا عقابه باجتناب نواهيه، إذا أصابهم عارض من وسوسة الشيطان تذكَّروا ما أوجب الله عليهم من طاعته، والتوبة إليه، فإذا هم منتهون عن معصية الله على بصيرة ، آخذون بأمر الله، عاصون للشيطان.

ثالثًا – الهم في مجابهة الدعوة

اتحذ أعداء الله لمجابهة الدعوة طرقًا وأساليب يصدون بها عن سبيل الله، فتارةً يوجهون طعنهم لحامل الرسالة، وتارةً يطعنون فيما جاء به، وتارةً يقترحون الآيات، ويتعنتون في السؤالات، ويؤلبون الأعداء، ويحاولون ترويج الباطل على النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه ما استطاعوا إلى ذلك سبيل، والله متفضل على رسوله من الوقوع في حبائلهم.

قال الله تعالى:

﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾

النساء: ١١٣

ولولا أن الله تعالى قد مَنَّ عليك – أيها الرسول- ورحمك بنعمة النبوة، فعصمك بتوفيقه بما أوحى إليك، لعزمت جماعة من الذين يخونون أنفسهم أن يُزِلُّوكَ عن طريق القضاء بالحق ، وما يُزِلُّونَ بذلك إلا أنفسهم، وما يقدرون على إيذائك لعصمة الله لك، وأنزل الله عليك القرآن ، وهداك إلى علم ما لم تكن تعلمه مِن قبل، وكان ما خصَّك الله به من فضلٍ أمرًا عظيمًا.

رابعًا – الهم بإيذاء الرسل والدعاة

من عناية الله بخلقه أن أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ لئلا يكون للناس حجةٌ؛ فسعوا في الأرض ينشرون دينه، لا يرجون أجرًا ولا يتطلعون لدنيا. ومع ذلك نجد من طبع الله على قلبه سخر وقته للنيل منهم، فآذوهم، وطردوهم، ونقضوا عهودهم، وأغروا بهم سفهاءهم، ومن لم يستطع منهم ذلك فإنه لم يأل جهده في العزم عليه، والسعي له، والفرح به إن تحقق، ومن منة الله على عباده: حفظهم من كيد أعدائهم وهمهم السيء بهم.

قال الله تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾

المائدة: ١١

يا أيها الذين أمنوا اذكروا ما أنعم الله به عليكم من نعمة الأمنِ، وإلقاءِ الرعب في قلوب أعدائكم الذين أرادوا أن يبطشوا بكم، فصرفهم الله عنكم، وحال بينهم وبين ما أرادوه بكم، واتقوا الله واحذروه، وتوكلوا على الله وحده في أموركم الدينية والدنيوية، وثِقوا بعونه ونصره.

قال الله تعالى :

﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾

الأنفال: ٣٠

﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾

الإسراء: ٧٦

ثم إنه بعد هذا الحث أمر بقتالهم صراحة

قال الله تعالى:

﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ﴾

التوبة: ١٤

في الآية التالية يدعوهم إلى التوبة؛ فقد تردى حالهم من الاستهزاء بالله ورسوله، وإضمار النفاق، والأيمان الكاذبة، والهم بالسوء.

قال الله تعالى:

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ﴾

التوبة: ٧٤

والدلالة نفسها تحملها الآية التالية في بيان حال أعداء الله مع رسل الله، وما هموا به من أمور تستوجب قتالهم وأخذ الله لهم بجريرة مافعلوا.

قال الله تعالى:

﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ  وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾

غافر: ٥

واختير هذا الفعل ﴿ الأخذ) هنا ليشمل مختلف ما همت به كل أمةٍ برسولها من قتل أو غيره

خامسًا – الاشتغال والعناية بالنفس الداعية للهم

المؤمن الحق يرخص روحه في سبيل نصرة دين الله ، أما المنافق فهمه نفسه وحمايتها؛ سلم غيره أم لا فمن همه بنفسه اشتعل صدره خوفًا وقلقًا لتخليصها كيفما اتفق. وفي ميدان (أحد) حيث القتال والهزيمة والفرار، يمحص الله بابتلاءاته القلوب، فيطفو النفاق جليًا على بعض النفوس الظآنة ظن الجاهلية، ويحملها على لوم النفس – لما هي هاهنا – حتى حل الفزع منها محل النوم.

قال الله تعالى:

﴿ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾

آل عمران: ١٥٤

وطائفة أُخرى أهمَّهم خلاص أنفسهم خاصة، وضَعُفَتْ عزيمتهم وشُغِلوا بأنفسهم، وأساؤوا الظن بربهم وبدينه وبنبيه، وظنوا أن الله لا يُتِمُّ أمر رسوله، وأن الإسلام لن تقوم له قائمة، ولذلك تراهم نادمين على خروجهم، يقول بعضهم لبعض: هل كان لنا من اختيار في الخروج للقتال؟ قل لهم -أيها الرسول-: إن الأمر كلَّه لله، فهو الذي قدَّر خروجكم وما حدث لكم، وهم يُخْفون في أنفسهم ما لا يظهرونه لك من الحسرة على خروجهم للقتال، يقولون: لو كان لنا أدنى اختيار ما قُتِلنا هاهنا. قل لهم: إن الآجال بيد الله، ولو كنتم في بيوتكم، وقدَّر الله أنكم تموتون، لخرج الذين كتب الله عليهم الموت إلى حيث يُقْتلون، وما جعل الله ذلك إلا ليختبر ما في صدوركم من الشك والنفاق، وليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال. والله عليم بما في صدور خلقه، لا يخفى عليه شيء من أمورهم.

والإنسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه، صار غافلًا عما سواه، فلما كان أحب الأشياء إلى الإنسان نفسه، فعند الخوف على النفس يصير ذاهلًا عن كل ما سواها، وهم الاشتغال بالنفس، الداعي إلى الغم والحزن، الغالب فيه هو خوف الموت وانتهاء الحياة، أو يكون داعيه الخوف من المستقبل وماسيحصل له، وقد عالجت الآيات ذلك، فالموت لا مفر منه

قال الله تعالى:

﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾

النساء: ٧٨

أما ما يحصل للمؤمن في هذه الحياة من الهم والغم الذي هو سنة ربانية لاينفك عنها عبد، فليس المطلوب منه محاربة ذلك، وإنما تجنب أسباب الوقوع فيه، فإذا وقع داواه بكثرة ذكر الله، فبذكر الله تطمئن القلوب المضطربة، وتسكن النفوس القلقة

قال الله تعالى:

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾

الرعد : ٢٨

وأعظم ذكر تنشرح به الصدور قراءة كلامه عز وجل.

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾

يونس: ٥٧

ولما ضاق صدر النبي صلى الله عليه وسلم بما يقوله المشركون أمره الله بذكره.

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾

الحجر: ٩٧-٩٩

وفي ختام هذه السطور يتضح من خلال ما تقدم أن القرآن الكريم تفرد في استعمال الهم بالشيء في معرض الذم في المجالات جميعها؛ ولعل ذلك -والله أعلم- لأن الإنسان حريص كل الحرص على إخفاء النوايا والهموم والخواطر السيئة، أما نيته وهمه بالخير فلا يحرص على إخفائه – وإن كان يبطنه مرات – ولكن ليس بدافع الحرج منه، والخوف من إظهاره. فجاءت الآيات مبينةً لهذا الهم السيئ الخفي؛ فضحًا للكافرين، وليتداركه المؤمنون، مستشعرين فضل الله عليهم وولايته لهم في ذلك.

كذلك غلب استعمال الهم بالشيء في القرآن بمعنى العزم. فالسياقات الواردة غالبها دلالة الهم بالشيء فيه تتوجه إلى العزم على الفعل، دون حديث النفس أومجرد الفكر وخطورته في القلب، ودون اشتغال النفس بالشيء اشتغالًا يحملها على الهم والقلق؛ ولعل القصد -والعلم عند الله- لأنها جميعًا جاءت في معرض الذم، ثم إن العزم هو الذي ينبغي الحذر منه، فليس بعد العزم إلا صدور الفعل ووقوعه.

5- توابع الهم بالشي

تحدث القرآن الكريم عن توابع الهم بالشيء ، وسوف نتناولها بالتوضيح فيما يأتي:

أولًا- جزاء الكافرين على همهم السيء

لأهل الهم السيئ من الكفار المكذبين لرسلهم، الساعين بكل سبيل للحط من شأنهم وماجاءوا به من الدين، جزاء وعقوبة استحقوها في الدنيا، سوى ماينتظرهم يوم القيامة من الخزي والنكال.

1- معاداة الكفار وقتالهم في الدنيا

الهم في ميادين القتال، أو ضد ميادين الدعوة، وسواء كان همهم لإيذاء الرسل أو المؤمنين والدعاة، فإن لهمهم تبعةً وأثرًا في الدنيا، من عدم موالاتهم، ولا التسليم والأمن لهم، ووجوب قتالهم وأخذ الحيطة والحذر منهم.

قال الله تعالى :

﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

التوبة: ١٣

الآية فيها تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين لأيمانهم، الذين هموا بإخراج الرسول من مكة .

2  – حماية النبي صلى الله عليه وسلم من فتك الكافرين به وترصدهم لقتله،

قال الله تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ  وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾

المائدة: ٦

3- حماية النبي صلى الله عليه وسلم من إضلال الكافرين له، وعصمته من الزلل.

قال الله تعالى :

﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾

النساء: ١١٣

4- تذكير المؤمنين بهم الكافرين بإيذائهم، وحفظ الله لهم

قال الله تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾

المائدة : ١١

5 – تأييد المؤمنين بإخوانهم والشد من عزمهم وتقويتهم بمعاونتهم لهم، فهو سبحانه الذي يثبتهم ويربط على قلوبهم، ويتولى من توكل عليه، فلا يجبن ولاينكص، بل ينزل عليهم الملائكته تثبتهم .

قال الله تعالى :

﴿ وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا ﴾

الأحزاب: 22

6- العذاب الأليم لأهل الهم السيئ منهم يوم القيامة.

استحقاق عذاب الله للمكذبين لرسلهم، ولأهل الهم السيئ بهم في الدنيا ويوم القيامة .

قال الله تعالى :

﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾

غافر: ٥

ثانيًا – هم المؤمنين بالسوء

أما المؤمنين فهمهم بالسوء – كما ظهر من الآيات – قد يكون باعثه الشهوات التي تستحكم أحيانًا، وقد يكون سببه ما جبل عليه البشر من حب الحياة، وهؤلاء لم ينسلخوا من بشريتهم بتلك الهموم، وإنما هي مشاعر إنسانية رافقت أحداثًا، يحسن التفطن لها، والاستعانة بالله في تهذيبها.

1- الربط على قلوب المؤمنين والتجاوز عن همهم.

فلجؤوهم إلى الله واعتصامهم به كان سببًا في ربط الله على قلوبهم، وتنجيتهم من الهم السيء، ومن ثم التجاوز عنهم.

قال الله تعالى :

﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾

آل عمران: ١٢٢

عبر بالطائفتين دون ذكرها إشارةً لطيفة إلى الكناية عن من يقع منه ما لا يناسب والستر عليه؛ إذ لم يعين بأنفسهما، ولا صرح بمن هما منه من القبائل سترًا عليهما ، وهو غاية في حفظه سبحانه لهم والعناية بهم .

2- حفظ عباده المؤمنين مما لا يليق من الهم.

فيوسف عليه السلام حفظه الله من الوقوع في براثن الرذيلة أو حتى الهم بها، ودلائل الآي تبين ذلك؛ فالمراودة تقتضي تكرير المحاولة منها، والممانعة من الجانب الآخر، فهي تحاول الإيقاع به، وامتنع واعتصم بالله الذي أحسن مثواه.

قال الله تعالى :

﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾

يوسف: ٢٤

6- معالجة هم المؤمن بالسوء

وفي خضم الحياة، يواجه المؤمن سيلًا من الفتن، التي إن لم يتحصن منها بحصن قوي زلت به القدم. وهاهنا وقفة لمعالجة ذلك:

أ – تقوية الإيمان بالله

فيوسف ذكر امرأة العزيز بالله رجاء أن تنتهي عن فعلها ومراودتها له،

قال الله تعالى :

﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾

يوسف: ٢٣

أي: أعتصم بالله من الذي تدعوني إليه، واستجير به منه.

ب – التذكير بالنعمة

ينبغي أن يؤدب العبد نفسه ويردعها بتذكيرها بفضل الله عليه

قال الله تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ . الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ . فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾

الانفطار: ٦- 8

يا أيها الإنسان المنكر للبعث، ما الذي جعلك تغتَرُّ بربك الجواد كثير الخير الحقيق بالشكر والطاعة، أليس هو الذي خلقك فسوَّى خلقك فعَدَلك، وركَّبك لأداء وظائفك، في أيِّ صورة شاءها خلقك؟

لمسة عتاب مبطنة بالوعيد لهذا الإنسان الذي يتلقى من ربه فيوض النعمة في ذاته وخلقته، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها، ولا يعرف لربه قدره، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة، فتذكيره بنعمة الله الأولى عليه من خلقه في هذه الصورة السوية، على حين يملك ربه أن يركبه في أي صورة تتجه إليها مشيئته، ولكنه اختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة تكرمًا عليه من ربه، راعيه ومربيه سبحانه.

ج – التخويف من العاقبة

قال الله تعالى :

﴿ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾

النحل 63

فلابد من النظر للعاقبة، فكم أعقبت المعصية ألـمًا، وكم أورثت ندمًا، وكم منعت رزقًا، وحرمت توفيقًا، وكم أنست علمًا، وجلبت همًا وغمًا. ومن تعجل شيئًا قبل أوانه، عوقب بحرمانه.

 

 

Share This