مفهوم العهد في القرآن الكريم
1- مفهوم العهد
العهد هوكل ما عوهد الله عليه من طاعته وعدم معصيته ، أو كل ما بين العباد من المواثيق، أو جميع ما انعقد بين إنسانين.
2- كلمة العهد
في
القرآن الكريم
وردت كلمة (عهد) في القرآن الكريم (٤٦) مرة. والصيغ التي وردت هي:
– الفعل الماضي
ورد ١٦ مرة
قال الله تعالى:
﴿ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ﴾
الأعراف:١٣٤
– الفعل المضارع
ورد مرة واحدة
قال الله تعالى:
﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ﴾
يس:٦٠
– المصدر
ورد ٢٩ مرة
قال الله تعالى:
﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ﴾
النحل:٩١
وجاء العهد في القرآن على خمسة أوجه:
– الإمامة
قال الله تعالى:
﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾
البقرة: ١٢٤
يعني: الإمامة
– المواثيق
قال الله تعالى:
﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
البقرة: ٨٠
يعني: موثقًا.
– الأمر
قال الله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾
طه: ١١٥
يعني: ولقد أمرنا آدم.
4- الحلف
قال الله تعالى:
﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾
النحل: ٩١
أي: بالحلف إذا حلفتم.
5- الوفاء بالأمانة
قال الله تعالى:
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾
الأعراف: ١٠٢
أي: وفاء وأمانة.
3- كلمات ذات الصلة
بكلمة العهد
– الميثاق
عقد أو عهد مؤكد بيمين ضمانا للوفاء بما تم التواثق من أجله، سواء أكان بين الله وخلقه من النبيين أو البشر، أو كان الميثاق مما يعقده الناس فيما بينهم.
قال الله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
البقرة : 27
– الوعد
أداء ما التزم به المرء لغيره من صلة أو معاملة أو غير ذلك مع عدم الظلم والخيانة.
قال الله تعالى:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾
الفتح: 29
– العقد
هو اتفاق بين طرفين يلتزم بمقتضاه كل منهما تنفيذ ما اتفقا عليه، ويُجْمَعُ على: عقود.
قال الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾
المائدة: 1
4- أساليب القرآن في
تعظيم العهود
نقف هنا على الأساليب التي استخدمها القرآن الكريم في تعظيم العهد.
١- الخبر
وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تتحدث عن العهد بصيغة الخبر، وهذه الآيات توضح عاقبة نقض العهد، أو جزاء الوفاء به .
– عن جزاء من أوفى بعهده
قال الله تعالى:
﴿ بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾
آل عمران: ٧٦
أي: فإن كل من أوفى بما عاهد عليه، واتقى الله في ترك الخيانة والغدر، فإن الله يحبه ويرضى عنه؛ لأن الله عهد إلى الناس في كتبه أن يلتزموا الصدق والوفاء بالعهود والعقود.
– جعل الفسق عاقبة الناقضين لعهد الله عز وجل
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
آل عمران: ٧٧
يخبر الله تعالى عن جزاء الذين يخونون العهد، ويكتمون ما أنزل الله، ويبدلون بالحق الباطل، ويستبدلون بكلام الله وأوامره عوضًا حقيرًا وثمنًا قليلًا، وهو متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك.
نلاحظ روعة الأسلوب القرآني في هاتين الآيتين، حيث جعل الوفاء بالعهد في الآية الأولى سببًا لمحبة الله ورضاه، وجعل خيانة العهد في الآية الثانية سببًا لخسارة نعيم الآخرة، واستحقاق غضب الله وسخطه.
٢- الأمر
يعتبر أسلوب الأمر في القرآن الكريم بشكل عام من الأساليب التي يتسابق المؤمنون العاملون لتحقيقه والوفاء بالمراد منه، فلا تَأَخُّرَ ولا تَلَكُّؤَ ولا تَرَاجُعَ، وهذا هو مقتضى الإيمان
قال الله تعالى:
﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾
البقرة: ٤٠
﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾
الأنعام: ١٥٢
﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ﴾
النحل: ٩١
﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾
الإسراء: ٣٤
نلاحظ من خلال الآيات السابقة أن الأمر يتكرر، تعظيمًا لشأن العهد، وتنبيهًا على وجوب الوفاء به، وعدم الإخلال بمقتضاه، وتحقيقًا لعبودية الله وطاعته.
٣ – أسلوب الاستفهام
ورد أسلوب الاستفهام في القرآن الكريم بصيغ كثيرة ، منها
– بصيغة الاستفهام التوبيخي
قال الله تعالى:
﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾
يس: ٦٠
– بصيغة الاستفهام الإنكاري
قال الله تعالى:
﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
البقرة: ٨٠
﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾
التوبة: ٧
– بمعنى النفي
قال الله تعالى:
﴿ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ﴾
التوبة: ١١١
نلاحظ مما سبق أن الاستفهام بأنواعه أحد الأساليب البلاغية التي عُرِضت فيها قضية العهد توبيخًا وإنكارًا ونفيًا.
٤ – الترهيب والترغيب والوعد والوعيد
من أبرز الأساليب القرآنية في عرض قضية العهد، أسلوب الترهيب والترغيب، والوعد والوعيد، بل إن أغلب الآيات التي وردت في هذا المجال لا تخلو من أحد هذين الأسلوبين
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ﴾
التوبة: ١١١
هذه الآية تَمْثِيلٌ قُصِدَ به الترغيب في الجهاد، عبر فيه تعالى عن بذل المؤمنين أنفسهم وأموالهم وإثابتهم بالجنة، كرمًا وفضلًا وإحسانًا، عبر عن ذلك بالشراء والمعارضة، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له .
– وعن جزاء الوفاء بالعهد
قال الله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ. أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
المؤمنون: 8-١١
ففي هذه الآيات ترغيب للالتحاق بصفوف المؤمنين لنيل رضى الرحمن عَزَّ وجَلَّ.
– وعن جزاء نقض العهد
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
آل عمران: ٧٧
5- أنواع العهد
في
القرآن الكريم
من خلال استقراء الآيات القرآنية التي وردت في العهد وجدت أن الالتزام بالعهد تارة يكون مع الله تعالى، وتارة بين البشر، فمن أهم تلك العهود والمواثيق ما يلي:
أولًا: العهود مع الله
لقد أخذ الله عز وجل عهودًا عظيمة وكثيرة على بني آدم حيث حَمَّلَهُم الأمانةَ التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال، وكان أول هذه العهود الذي أخذه الله تبارك وتعالى على ابن آدم وهو في صلب آدم عليه السلام.
قال الله تعالى:
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ ﴾
الأعراف: ١٧٢
فقد أخذ الله العهد على عباده جميعًا، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا؛ لأنه ربهم وخالقهم ، وعليهم أن يعملوا بالأحكام والشرائع التي فرضها الله تعالى عليهم .
قال الله تعالى:
﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
الحديد: ٨
﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
البقرة: ٢٧
﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾
المائدة: ٧
ثانيًا: العهود مع الناس
العهود التي تقع بين الناس، هي التي تكون بين الإنسان وبين أخيه المسلم، وبين المسلمين وبين الكفار وغير ذلك من العهود المعروفة، فقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد
قال الله تعالى:
﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾
الإسراء: ٣٤
يعني: أن الوفاء بالعهد مسؤول عنه الإنسان يوم القيامة، يسأل عن عهده هل وفى به أم لا؟ .
قال الله تعالى:
﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾
النحل: ٩١
والتزموا الوفاء بكل عهد أوجبتموه على أنفسكم بينكم وبين الله – تعالى- أو بينكم وبين الناس فيما لا يخالف كتاب الله ، ولا ترجعوا في الأيمان بعد أن أكَّدْتموها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا وضامنًا حين عاهدتموه. إن الله يعلم ما تفعلونه، وسيجزيكم عليه.
ثالثا: العهود مع الدول
وظل تاريخ الإسلام منذ فجر عهده، وعلى مر مراحله التاريخية، صفحة بيضاء نقية، لم يدنس بخيانة، ولا غدر، ولا نقض عهد، بدون وجود ناقض من العدو.
قال الله تعالى:
﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾
التوبة: 7
لا ينبغي أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام في صلح (الحديبية) فما أقاموا على الوفاء بعهدكم فأقيموا لهم على مثل ذلك. إن الله يحب المتقين الموفِّين بعهودهم.
6 – مجالات العهد
في
القرآن الكريم
يمتد العهد إلى جميع ميادين حياة الإنسان وواقعه، لإصلاح حياة الناس وبدون العهد والوفاء به تفسد حياة الناس وتضطرب، والناظر للآيات القرآنية التي جاءت بالعهود يتضح له أن العهود جاءت في مجالات عديدة، منها:
أولًا – العقيدة
من أهم مجالات استعمال مصطلح العهد مجال العقيدة، والمتتبع للآيات التي ورد فيها لفظ العهد يلحظ هذا الجانب بوضوح، وبعد استقراء الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح في الجانب العقدي ينحصر الحديث فيه عن الإيمان بالله وكتبه ورسله والإيمان بالشرائع المنزلة.
١ – الإيمان بالله
يعتبر الإيمان بالله تعالى الأساس الذي تتفرع عنه جميع جوانب العقيدة الأخرى، ونجد أن آيات العهد التي تتعلق بالإيمان بالله تعالى تربط بين الإيمان والعهد ربطًا قويًّا، وأن السبب الرئيس في نقض العهود والمواثيق هو عدم الإيمان أو ضعفه
قال الله تعالى:
﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾
البقرة: ١٠٠
ونجد الحكم من الله تعالى على من نقض العهد بالكفر، فلا إيمان إلا بالالتزام بعهد الله تعالى.
قال الله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
البقرة: ٢٧-٢٨
﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾
النساء: ١٥٥
﴿ لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ . وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾
الأعراف: ١٠١-١٠٢
٢ – الإيمان بالكتب المنزلة
قال الله تعالى:
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ . وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾
البقرة: ٤٠-٤١
في هذه الآية يدعو الحق سبحانه وتعالى بني إسرائيل للوفاء بالعهد الذي عاهدوه عليه، ومن العهود التي أخذها الله عز وجل من بني إسرائيل: الإيمان بالتوراة، وفي التوراة وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والكتاب المنـزل عليه، هذا هو مقتضى العهد الذي بينهم وبين الله جل وعلا، وإيمان بالمُنَزَّل، وعدم كفر وابتعاد عن الرشوة بالتوراة، وتحقيق ذلك تحقيق للتقوى .
٣ – الإيمان بالرسل والأنبياء
قال الله تعالى:
﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
البقرة: ١٠٠-١٠١
فالرسول صلى الله عليه وسلم هو المصدق لما معهم، والذي معهم هو التوراة، وفي التوراة وجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وقد أعطوا العهد وأُخِذَ عليهم الميثاق بالإيمان بها وما فيها.
قال الله تعالى:
﴿ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾
آل عمران: ١٨٣-١٨٤
رد الله تعالى على الذين استخدموا عهد الله ذريعة للتكذيب بالرسل فكشف الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا ديدنهم وسنة فيمن كان قبلهم، يرثها المتأخر عن المتقدم ويورثها السابق للاحق، فلقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا يتم الإيمان به إلا أن يصاحب ذلك دعوة الناس إلى الإيمان به وبيان أنه على الحق، مستدلين على ذلك بما معهم من التوراة والإنجيل، مما لم يكن عند غيرهم من الأمم الوثنية التي كانت تنظر إلى اليهود والنصارى نظرة تقدير واحترام لدينهم الذي يتميزون به عن غيرهم.
ثانيًا – العبادات
ولقد جاءت الآيات القرآنية الخاصة بالعهود في جانب العبادات لتؤكد على العلاقة القوية بين العهود والعبادات التي شرعها الله تعالى، ويأتي وصف المؤمنين الذين يفون ببيعتهم – وهو عهد مع الله- يشتمل على عدة أنواع من العبادة تؤهل صاحبها لنيل رضاء الله والحصول على الجنة، وفاءً بعهد الله ووعده.
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
التوبة: ١١١-١١٢
ثالثًا – الأخلاق
جاء العهد في القرآن الكريم في مجال الالتزام بالأخلاق النبيلة والسلوك الحسن، فكل الآيات التي جاءت مبينة نقض العهد من قِبَلِ مَنْ أُخِذَ منهم، تدل على اتصاف أولئك بأسوأ الأخلاق وأقبحها.
قال الله تعالى:
﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾
البقرة: ١٠٠
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
آل عمران: ٧٧
﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ﴾
الأنفال: ٥٥-٥٦
وفي المقابل يصف القرآن الذين يوفون بالعهد بأحسن الصفات ومكارم الأخلاق.
قال الله تعالى:
﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾
البقرة: ١٧٧
﴿ بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾
آل عمران: ٧٦
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾
الأحزاب: ٢٣-٢٤
رابعًا – العلاقات مع غير المسلمين
شرع الإسلام للحاكم المسلم أن يعقد العهود والمواثيق والاتفاقيات في السلم والحرب مع الدول الأخرى بما يحقق مصالح الدولة الإسلامية، ويضمن لها استقرارها ونفوذها وسلامتها وقد أوجب الله تعالى الوفاء بتلك العهود والمواثيق وإتمامها وعدم نقضها، واعتبر نقضها خيانةً وغدرًا وخداعًا. ومما يدلل على أن الدولة المسلمة تحترم العهد
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
الأنفال: ٧٢
وإن طلب منكم هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا النصرة على أعدائكم في الدين، فيجب عليكم أن تنصروهم، لأنهم إخوانكم في العقيدة، بشرط ألا يكون بينكم وبين هؤلاء الأعداء عهد ومهادنة، فإنكم في هذه الحالة يحظر عليكم نصرة هؤلاء المؤمنين الذين لم يهاجروا؛ لأن في نصرتهم- على من بينكم وبينهم عهد- نقضا لهذا العهد، فالوفاء بالعهد أولى وأداء حق الميثاق أحرى وأجدى.
خامسًا – المعاملات
لقد جاء العهد في القرآن الكريم في إطار تنظيم التعامل بين الناس لتحل الثقة والأمانة مكان والخوف والخيانة، ومن المعاملات التي عمل القرآن الكريم على تنظيمها بين الناس، ولها ارتباط وثيق بالعهد ما يلي:
١ – الزواج والطلاق
الزواج والطلاق نمط من أنماط التعامل البشري يحتاج إلى ضمانة قوية تضفي على طرفي العقد الود والوئام بعيدًا عن أي محاولة للمكر والخداع، ونلمس قوة هذا العقد وأهميته في ميزان الإسلام من خلال هذه الآيات
قال الله تعالى:
﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا . وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾
النساء: ٢٠ – ٢١
ففي هاتين الآيتين يتضح اهتمام القرآن في تنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة عند الزواج وعند الطلاق.
٢ – الكيل والميزان
يجمع الله عز وجل بين الإيفاء بالكيل والميزان وبين الوفاء بالعهد مما يؤكد على العلاقة القوية بين العهود والوفاء بالكيل والميزان.
قال الله تعالى:
﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾
الأنعام: ١٥٢
٣- الأمر بالعدل والنهي عن البغي
بعدما ذكر الحق تبارك وتعالى العدل أعقبه بالأمر بالوفاء بالعهد، والتعامل بين الناس إن لم يصاحبه العدل كان بغيًا وعدوانًا.
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾
النحل: ٩٠-٩١
٤- الأمانة
تعتبر الأمانة من أهم أشكال التعامل وأخطرها، ومن هنا نجد العناية بها، فنلاحظ الجمع بينها وبين رعاية العهد في القرآن، وذلك للرابط القوي بين معناهما ، فالأمانة عهد والعهد أمانة.
قال الله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾
المؤمنون: ٨
سادسًا – الجهاد في سبيل الله
وَرَدَ العهد في مجال الحث على الجهاد في سبيل الله، وبيانًا لعظم شأنه وعلو مقامه، وأن التخلف يوم الزحف نقض لعهد الله وانتهاك لحرماته.
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
التوبة: ١١١
7- الوفاء بالعهد
في
القرآن الكريم
الوفاء فضيلة من فضائل الإسلام العظيمة، والتي حث عليها الإسلام وجعلها دليلًا على الصدق والشجاعة والصبر، ولا يتصف بها إلا عظيم، ولقد جعل الله لكل عهد جزاءً ولكل فعل أثرًا، والخوف والرجاء من صفات النفس البشرية، فهناك نفس تنقاد مع الوعد وأخرى تخشى الوعيد، والمؤمن يعيش دائمًا بين الرجاء والخوف.
أولًا: حكم الوفاء بالعهد
نقض العهد كبيرة من كبائر الذنوب: وقد أمر الله المؤمنين بالوفاء بالعهود، وحرم عليهم نقضها
قال الله تعالى:
﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾
الإسراء: ٣٤
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾
المائدة: ١
﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾
البقرة: ٤٠
﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾
الأنعام: ١٥٢
﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ﴾
النحل: ٩١
من خلال الآيات السابقة يتضح حكم العهود، فالآيات صريحة الدلالة على وجوب الوفاء وحرمة الغدر والخيانة، وجميع الآيات التي ورد فيها لفظ العهد تدل على ذلك المنطوق أو بالمفهوم.
ثانيًا: آثار الوفاء بالعهد
باستقراء الآيات التي تحدثت عن العهد، نلاحظ الآثار التي رتبها الله عز وجل على الالتزام بالعهد، فمن هذه الآثار:
١ – التقوى
من الثمرات التي تعود على الفرد من خُلُقِ الوفاء ومن الالتزام به التقوى، حيث إن الوفاء يورث في القلب التقوى.
قال الله تعالى:
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
البقرة: ٦٣
٢ – الإيمان
الوفاء بالعهد هو الذي يحقق الإيمان، والموفون بعهدهم هم المؤمنون
قال الله تعالى:
﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
الحديد: ٨
فرعاية العهد والأمانة من صفات المؤمنين الصادقين، والتخلي عن تلك الصفة إخلال بهذا الوصف
٣ – محبة الله
أعلن الله تعالى في كتابه العزيز محبته للمتقين الموفين لعهودهم.
قال الله تعالى:
﴿ بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾
آل عمران: ٧٦
﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾
التوبة: ٤
الآيات السابقة تشعر بأن التقوى ملاك الأمر، عام للوفاء بالعهود والمواثيق وغيره، وجالبة لمحبة الله تعالى
٤ – تكفير السيئات و سبب لدخول الجنة
الوفاء بالعهود يكفر الله به السيئات والذنوب، ويوجب دخول الجنة ونعيمها الدائم .
قال الله تعالى:
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾
البقرة: ٤٠
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾
المائدة: ١٢
ثالثًا: آثار نقض العهد
إذا كان للوفاء بالعهد آثارٌ إيجابية تودي بصاحبها للفوز، فإن نقض العهد يترك آثارًا سلبية تودي بصاحبها إلى الخسران، وإذا كانت الآثار الإيجابية حافزة وداعية المسلم للالتزام والوفاء، فإن الآثار السلبية أشد إنذارًا وتحذيرًا وتخويفًا، وهذه الآثار منها ما يكون في الدنيا، وأعظمها ما سيكون في الآخرة، من هذة الآثار:
١ -الكفر
قرن الله عز وجل بين الكفر ونقض العهد في كثير من الآيات القرآنية، ولا شك بأن الذي ينقض عهده مع الله فقد كفر، لا سيما وأن الله قد أخذ الميثاق على جميع البشر وهم في عالم الذر، ومن هنا جاء نفي الإيمان عن الناقضين لعهودهم، زجرًا وتهديدًا لهم.
قال الله تعالى:
﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾
البقرة: ١٠٠
﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾
النساء: ١٥٥
٢- الخسران
من الآثار المترتبة على نقض العهد الخسران في الدنيا والآخرة
قال الله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
البقرة: ٢٧
فإذا كانت خسارة الدنيا يفر منها الإنسان، وتترك آثارها على حياته ومستقبله، فكيف بخسران الدنيا والآخرة؟
٣- القتل والتشريد
من الآثار المترتبة على نقض العهد في الدنيا القتل والتشريد، ولقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم إن لقي هؤلاء الخائنين ناقضي العهود وتمكن منهم، أن يعاقبهم عقوبة قاسية تتعدى آثارها هؤلاء المجرمين إلى ما يقف خلفهم وبتربص بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الدوائر، يكون من آثارها تشريد أولئك المتربصين وتفريق كلمتهم وتشتيت شملهم.
قال الله تعالى:
﴿ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ . فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾
الأنفال: ٥٦-٥٧
٤- اللعن وقسوة القلوب
يبين الله أن اللعن وقسوة القلب جزاء لناقضي العهود
قال الله تعالى:
﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾
المائدة: ١٣
﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾
الرعد: ٢٥
أي: أولئك الموصوفون بتلك الصفات الذميمة والتي منها نقض العهود والمواثيق، لهم من الله تعالى اللعنة والطرد من رحمته، ولهم فوق ذلك، الدار السيئة وهي جهنم.
٥ – الموقف المخزي يوم القيامة
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
آل عمران: ٧٧
إن الذين يستبدلون بعهد الله ووصيته التي أوصى بها في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم، عوضًا وبدلا خسيسًا من عرض الدنيا وحطامها، أولئك لا نصيب لهم من الثواب في الآخرة، ولا يكلمهم الله بما يسرهم، ولا ينظر إليهم يوم القيامة بعين الرحمة، ولا يطهرهم من دنس الذنوب والكفر، ولهم عذاب موجع.
٦ – الجناية على النفس
نقض العهود تعود جنايتها على النفس
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ﴾
الفتح: ١٠
فالناقض لعهده يجني على نفسه ويوبقها، وهذه الآثار هو سببها، وهو حطبها ووقودها.
أحدث التعليقات