مفهوم التقليد في القرآن الكريم

1- مفهوم التقليد

التقليد هو المحاكاة من غير تفكير ولا نظر ولا تأمل. فالعادات والأفكار التي هي محل التقليد، تتناوب بين الأجيال، وتنتقل من جيل إلى جيل.

قال الله تعالى:

﴿ وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾

الزخرف: 23- 24

2- كلمات ذات الصلة

     بكلمة التقليد

– الاتباع

هو أن يميز الإنسان الخبيث من الطيب، وأن يتبين طريقه على بصيرة، وأن يعرف من تقدمه على طريق الحق والصدق، فيتخذه أسوة وقدوة، فيمضي اللاحق على سنن السابق، فتوجد عند الإنسان روح الاتباع .

قال الله تعالى:

﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾

البقرة: ٣٨

وخير اتباع ينبغي أن يتحلى به المرء ويلتزمه ويحرص عليه، اتباع هدي الله، والتزام صراطه المستقيم؛ لأن ذلك طريق الأمان والاطمئنان

– التشبه

هو عبارة عن محاولة الإنسان أن يكون شبه المتشبه به وعلى هيئته ونعته وصفته، و قد غلب استعمال التشبه في الأفعال.

قال الله تعالى:

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾

البقرة 118

3- أنواع التقليد

    في

القرآن الكريم

ورد نوعين من أنواع التقليد والاتباع في  القرآن الكريم ، وهما:

أولا – إتباع الدليل العلمي العقلي

حيث أشارت الآيات إلى إتباع الدليل العلمي العقلي وإتباع من يملك ويتمسك بهذا الدليل قولاً وفعلاً .

أ – أدلة جواز التقليد

العلمي العقلي

قال الله تعالى:

( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون )

الأنبياء :7

فأمر بقبول قول أهل العلم، فيما كان من أمر دينهم .

ب – الحث على إتباع أهل العلم

قال الله تعالى:

( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملّة إبراهيم حنيفا)

النساء: 125

( ربّنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنّا )

آل عمران: 193

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾

الطور: 21

ثانيا – الاتباع الباطل للجهل والهوى

وهو الاتباع المذموم عقلاً وشرعاً ، لأن منشأه التعصب والهوى والجهل .

أ – النهى عن إتباع الباطل

للجهل والهوى

قال الله تعالى:

( وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آبائنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون )

البقرة: 170

 ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون )

المائدة:  104

( يا أيّها الذين آمنوا لا تتّبعوا خطوات الشيطان ومن يتّبع خطوات الشيطان فانّه يأمره بالفحشاء والمنكر)

النور:21

ب – ذم التقليد الأعمى

التقليد الأعمى للسابقين أمرٌ مذموم في القرآن، لأنه يؤدي إلى الجمود والانقياد وراء أفكار ما أنزل الله بها من سلطان ، وإلى عدم التدبر والتفكر في آيات الذكر الحكيم.

قال الله تعالى:

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ )

البقرة : 170

 ( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ. قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ )

الأنبياء : 52- 54

الله قد ذمَّ المقلدين لآبائهم في الكفر والطغيان من غير دليل ولا برهان وفي النهاية وصلوا بهم إلى التهلكة.

4- أسباب التقليد

    في

القرآن الكريم

أجمل القرآن الكريم أسباب التقليد ، على النحو الآتي

أولًا – الجهل

عندما ينتشر الجهل، ينتشر التقليد؛ فيستقبل الجاهل ما يلقى إليه من عقائد فاسدة، وتشريعات ضالة. وقد حدثنا القرآن الكريم بأمور يكون الجهل فيها سببًا للتقليد، وهي:

1- الجهل بحقيقة التوحيد

تحدث القرآن الكريم عن أناس جهلوا حقيقة الألوهية والربوبية، وحقيقة المنعم عليهم؛ فعبدوا غيره. فهاهم بنو إسرائيل يطلبون من موسى عليه السلام  وهم حديثو عهد بمعجزة فلق البحر، وإغراق فرعون وقومه على مرأى من أبصارهم أن يجعل لهم إلهًا صنمًا، تقليدًا لعبدة الأصنام. فوصفهم الله بالجهل على أتم وجه، لأنهم جهلوا حقيقة التوحيد.

قال الله تعالى:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾

الأعراف: ١٣٨

كذلك وجدنا كفار مكة يطلبون من نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم، التي هرعوا في عبادتها مستنين بآبائهم دون علم، فكان الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يرد على المشركين ردًا فيه الشدة والوصف بالجهل.

قال الله تعالى:

﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾

الزمر: ٦٤

وبلغ من جهل الكفار أن نسبت اليهود عزيرًا إلى الله، وكان مثلهم النصارى في قولهم المسيح ابن الله

قال الله تعالى:

﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾

التوبة: ٣٠

2- الجهل بحقيقة النبوة

إن الأقوام الكافرة جهلت رسالة النبي المبعوث بها، وأنه مكلف بالبلاغ وليس الإتيان بالمعجزات، ولم يكن هذا من أجل الاهتداء، بل عنادًا. وهذا الأمر تكرر على مر القرون، بسبب جهل الأقوام بحقيقة النبوة

قال الله تعالى:

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾

البقرة: ١١٨

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ﴾

الفرقان: ٢١

3- الجهل بحقيقة التشريع

من حيث التشريع نجد أن القرآن الكريم ينعى على المقلد الذي يتبع آباءه الذين شرعوا له مالم يأذن به الله، هؤلاء الآباء الذين لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.

قال الله تعالى:

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾

البقرة: ١٧٠

إن الله تعالى هو الخالق ؛ ومن حقه وهو يعلم من خلق، ويعلم ما يصلح الخلق ويفسده أن يضع التشريع الذي يصلح خلقه ولا يفسدهم ، وجهل الكفار حقيقة علم الله ، فذهبوا ينازعون الله هذا الحق وأخذوا يشرعون مالم يأذن به الله.

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾

المائدة: ٨٧

فسمى الله تعالى تحريم ما أحل اعتداء، فهو اعتداء من حيث جعل النفس هي المشرعة من دون الله، وتحرم ما يصلحها، وتحل ما يفسدها، وهذا لا يكون إلا من جاهل.

ثانيًا- اتباع الهوى

اتباع الهوى مذموم في كتاب الله تعالى، ويكون في أمور كثيرة أهمها:

أ- الغلو

قد نهى الله تعالى أهل الكتاب عن اتباع أسلافهم في الغلو في عيسى عليه السلام.

قال الله تعالى:

﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾

المائدة: ٧٧

﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾

النساء :171

ب – العقائد الباطلة

ما يتبع هؤلاء الجاهلون في عبادتهم لتلك الآلهة الباطلة، إلا الظنون الكاذبة، وإلا ما تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء، وتقليد للآباء بدون تفكر أو تدبر.

قال الله تعالى:

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾

القصص: ٥٠

ت – التشريع الباطل

وكما كان اتباع الهوى في العقائد، كذلك كان في التشريع.

قال الله تعالى:

﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴾

الأنعام: ١١٩

ث – الكبرياء

إن خلق الكبرياء، خلق يعمي عن اتباع الصراط المستقيم ومن اتبع هواه في هذا الخلق واستكبر، وجد نفسه معاندًا للحق، صادًا عن سبيل الله تعالى. ولقد وجد هذا الأمر في الأمم والأفراد .

– عن بني إسرائيل

فبنوا إسرائيل استكبروا عن سماع الحق واتباع الرسل، فقتلوا فريقًا منهم وكذبوا فريقًا .

قال الله تعالى:

﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾

البقرة: ٨٧

– عن فرعون وقومه

أنكرفرعون وقومه الحق ظلمًا وعلوًا. فأنفسهم أيقنت الحق، ولكنهم رفضوه تكبرًا .

قال الله تعالى:

﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴾

القصص: ٣٩

ج – العمل بخلاف ما يعلم

علم الله تعالى الإنسان مالم يعلم، والأصل في الإنسان أن يشكر الله تعالى على هذه النعمة بأن يؤدي حق الله فيها، إلا أن هناك ممن تعلم حتى إذا صار عالمًا اتبع هواه، فعندها قال أو عمل خلاف ما يعلم.

قال الله تعالى:

﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾

الأعراف: ١٧٥-١٧٦

ح – قلب الحقائق

قال الله تعالى:

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾

غافر: ٢٦

ففرعون ينظر إلى موسى على أنه المفسد ويرى نفسه مصلحًا، فأصبح المعتدي على الألوهية الحقة – طمعًا في إبقاء ألوهيته الزائفة المتبعة للهوى- هو الحق، ومن أراد إرشاد العباد لخالقهم هو المفسد! بل وعد نفسه أنه الهادي قومه إلى الرشاد، الآتي لهم بشرع رشيد.

ثالثًا: الخوف والاستضعاف

خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه بالعقل والإرادة. وحينما يتنازل عن هذا التكريم الإلهي، فإنه يصبح موبوءًا بوباء التبعية، ويسلم قياد نفسه لغيره، ويعطل عقله، ومن هنا نجده يمتثل أمر سيده، ويجتنب نهيه، تاركًا كتاب ربه وراءه ظهريًا ، ويسيطر عليه أمران هما:

1- الخوف

الخوف أما ماكان مفطورًا عليه المرء ولا مؤاخذة فيه، وأما الخوف النفعي، وهو قد يكون خوفًا من قوة متوقعة، أوخوفًا على المال أو المنصب. وهذا كان سببًا في تقليد الكافرين ومتابعتهم، والإعراض عن سبيل المؤمنين.

قال الله تعالى:

﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾

المائدة: ٥٢

﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

القصص: ٥٧

2- الاستضعاف

وصف الله سبحانه وتعالى حالة الضعف كحالة تعتري النفس البشرية، تؤدي إلى الانقياد والتبعية للآخر المستكبر

قال الله تعالى:

﴿ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ﴾

إبراهيم: ٢١

والضعفاء هم الذين تنازلوا عن كرامتهم وحريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد، وجعلوا أنفسهم تبعًا للمستكبرين الطغاة. والقوة المادية -مهما كانت- لا تملك إلا تعذيب الجسد، أما العقل والروح فلا يملك أحد حبسها إلا إذا أسلمها صاحبها للحبس والإذلال، فحينما ضعفت الأرواح والعقول سقطت همتهم، واتبعوا المستكبرين.

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾

النساء: ٩٧

والله تعالى لم يقبل عذر المستضعف، إذا كان قادرًا على الانتفاضة على ضعفه وذله، تاركًا تبعية كبيره، بل وحتى تكثير سواده -إذا لم يكن في الانتفاضة منكر أكبر من منكر الضعف والذلة .

رابعًا – تعظيم الساداة والكبراء

يخرج في كل أمة أشخاص بارزون لهم بصمات في تاريخها، فمنهم من يبرز في ميدان العبادة، ومنهم من يبرز في ميدان المعارك، ومنهم من يبرز في ميدان العلم، ومنهم من يبرز في ميدان القيادة. وهذه الفئة من كل أمة يكون لها وزنها في أنفس الجماهير. ولما كان قول أهل النباهة له مكانة في الأنفس، فإن العامة تقول بقولهم، وتعمل عملهم .

قال الله تعالى:

﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴾

الأحزاب : 67

هؤلاء الرجال كان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا جعل أتباعهم لهم صورًا ليتذكروهم، فينشطوا في العبادة والطاعة كلما رأوها ، أن هؤلاء الرجال كان يستمطر ويستنصر بهم، فزاد تعظيمهم في الأنفس حتى وصلوا إلى عبادتهم.

5- مجالات التقليد

         في

   القرآن الكريم

تتعدد مجالات التقليد في القرآن الكريم ، ومن تلك المجالات الأتي :

أولًا- التقليد في العقيدة

العقائد مسائل ثابتة، يجب الإيمان بها، ولا مجال للتلاعب فيها. إلا أن الأقوام السابقة تكرر التقليد في العقيدة منهم في مسائل ثلاث:

١ – التقليد في موقف الأمم من الرسل والدعاة

أرسل الله تعالى الرسل تترا إلى الناس مبشرين ومنذرين، فمنهم من آمن، ومنهم من صد عن سبيله. والذين صدوا عن سبيله هم الأكثرية، وكانت لهم مواقف تجاه الرسل متكررة على مر الأجيال، ومن هذه المواقف:

أ- شبهة بشرية الرسل

تكررت هذه الشبهة على لسان الأقوام المكذبة للرسل عليهم السلام، ظنًا منهم أن الرسالة لا تنبغي إلا لملك مقرب، والبشر أدنى من هذا المستوى، ولئن كانت هذه لبشر، فتنبغي أن تكون لرجل عظيم في المال والجاه.

قال الله تعالى:

﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا ﴾

التغابن: ٦

﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴾

المؤمنون: ٢٤

﴿ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾

فصلت: ١٤

فهذه الآيات ذكرت اتهام الأقوام للرسل عليهم السلام بأنهم بشر، وهذا الكلام لمجموع الرسل (رسلهم)، وفيه بيان أن الأقوام توارثت هذه الشبهة، وتفوه بها اللاحقون تقليدًا للسابقين.

ب – التكذيب والاستهزاء والطرد

عند توالي تبعية المستضعفين للرسل والدعاة، يستشعر الكبراء الخطر في ضياع نفوذهم، وذهاب طاعة المستضعفين لهم، فيبدأ هؤلاء الكبراء بإثارة الشبهات حول الرسالة الجديدة لهدمها، فيكذبونها ويستهزؤون بها. وحينما لا تفلح حجتهم أمام حجة دين الله تعالى يلجئون إلى القوة والبطش وطرد الرسل والدعاة. وهذا الأمر ديدن الكافرين قديمًا وحديثًا، كما أخبرنا القرآن العظيم.

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ . وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾

الحجر: ١٠-١١

﴿ كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ . أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾

الذاريات: ٥٢-٥٣

2- التقليد في إنكار البعث

اليوم الآخر يوم أخبرت به الرسل جميعًا وهو يدرك عقلًا، إن أحسن العقل التفكير. إلا أن من الناس من عطل عقله وأسلمه لغيره انقيادًا له وتبعية؛ وبات يتذرع بأن ما جاءت به الرسل، إن هو إلا أساطير الأولين.

قال الله تعالى:

﴿ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ . قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ . لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَٰذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾

المؤمنون: ٨١-٨٣

ومتكأ القوم في تكذيبهم للبعث، أنه وعد متكرر لآبائهم الأقدمين، فهم قالوا مثل ما قال أسلافهم، وكذبوا مثل ما كذب الأولون.

قال الله تعالى:

﴿ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ﴾

مريم: ٦٦

﴿ وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ﴾

الإسراء: ٤٩

يستبعد الكافر البعث؛ لأنه بزعمه مخالف للمعهود عنده. ويعبر عن ذلك بسؤال استنكاري

قال الله تعالى:

﴿ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾

الرعد: ٥

وهم يتعجبون منه

٣ -التقليد في الاحتجاج بالقدر

الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، وهذا من الأركان التي يساء فهمها، ويحمل من التفسيرات ما لا يحتمل. وإساءة الفهم هذه قديمة جديدة، عايشها القدماء، وسايرها المحدثون. ولقد بين الله عز وجل في كتابه الكريم فهم الأقوام الخاطئ لهذا الركن حينما كانوا يتعذرون بالقدر على فعل المنكر، بعبادة غير الله تعالى.

قال الله تعالى:

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾

النحل: ٣٥

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ  كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾

الأنعام: ١٤٨

﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾

الأعراف: ٢٨

كذلك بين الله تعالى احتجاج الأقوام المتعاقبة على فعل المعاصي بالقدر ، بحجة أن الله رضيه لهم وشاءه منهم مشيئة رضى، فكذلك الأمم قبلهم كذبوا رسلهم مستندين إلى هذه الشبهة

ثانيًا – التقليد في الأحكام الشرعية

خلق الله الكون، وهو يعلم ما يصلحه وما يفسده، ومن حقه وحده أن يضع له التشريع الذي يناسبه؛ فهو الأعلم

قال الله تعالى:

﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾

الملك: ١٤

فالحلال ما أحل والحرام ما حرم. إلا أن من الناس من يأبى إلا أن يأتي بتشريع من لدن نفسه، فمنهم من يتلاعب في العبادات والشعائر، فيغير فيها زيادةً أو نقصًا، ومنهم من يرى لنفسه حق التشريع، فيأتي بشرع غير شرع الله تعالى.

١ – التقليد في الشعائر

الله تعالى خلقنا لعبادته

قال الله تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

الذاريات: ٥٦

وحتى تكون العبادة صحيحة ومقبولة فلا بد لها من شرطين: أن تكون خالصة لوجهه الكريم، وموافقة للشرع

قال الله تعالى:

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾

الكهف: ١١٠

إلا أن من الناس من يزين له الشيطان أن يعبد الله وفق هواه، فيأتي بعبادة لم يأذن بها الله.

قال الله تعالى:

﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ  وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾

الحديد: 27

٢- التقليد في الشرائع

أمر الله تعالى كل رسول بتشريع يناسب قومه وحالهم، موصيًا إياهم بإقامته

قال الله تعالى:

﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾

الشورى: ١٣

إلا أن المشركين ردوا شرع الله تعالى، زاعمين أنهم أهل للتشريع والتحليل والتحريم؛ فضلوا وأضلوا.

قال الله تعالى:

﴿ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾

الشورى: ١٣

فأهل الجاهلية إن قيل لهم: اتبعوا شرع الله في الأنعام، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه الآباء.

قال الله تعالى:

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾

البقرة: ١٧٠

وجدنا الأحبار والرهبان نصبوا من أنفسهم آلهة لها الحق في التشريع بما تهوى أنفسهم، فكان لهم أتباع اتخذوهم أربابًا من دون الله.

قال الله تعالى:

﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾

التوبة: ٣١

ثالثًا- التقليد في الأخلاق

جاء القرآن الكريم ليحذر المؤمنين من التشبه بأخلاق أهل الكتاب والمنافقين والمشركين

أ – تقليد أخلاق أهل الكتاب

تحدث القرآن الكريم كثيرًا عن أهل الكتاب، مبينًا للمسلمين صفاتهم وأخلاقهم السيئة، ليكونوا على بينة من دينهم، وليحذروا هذه الصفات؛ حتى لا يصيبهم ما أصابهم

– قسوة القلب

قسوة القلب نتيجة طبيعية لاقتراف المعاصي، والقلوب القاسية توعدها الله تعالى بالويل

قال الله تعالى:

﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾

الحديد: ١٦

والآية تنهى المؤمنين أن يسلكوا طريق أهل الكتاب في الانغماس في الشهوات ومتابعة الملذات؛ فتكون النتيجة قسوة قلوبهم، كما قست قلوب أهل الكتاب.

– التفرق والاختلاف والتشرذم

ومن أخلاق السوء التي نهانا الله عن امتثالها، وعن فعلها كما فعلها أهل الكتاب التفرق والاختلاف والتشرذم.

قال الله تعالى:

﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾

آل عمران: ١٠٥

﴿ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾

الروم: ٣١-٣٢

أي: لا تكونوا يا معشر المؤمنين كأهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا في دين الله تعالى، وخالفوا أمره، من بعد ما جاءهم البينات. فلا تفعلوا فعلهم، وتستنوا سنتهم.

ب-  تقليد أخلاق المنافقين

النفاق صفة ذميمة يلجأ إليها بعض البشر حينما لا يستطيعون الوصول الى أهدافهم بسهولة، فيلجأون الى النفاق. ومن صفاتهم الذميمة التي نهينا عن تقليدهم فيها:

– الظن السيء

لقد جاء القرآن الكريم ينهانا عن التأسي بالمنافقين في صفتهم الظن السيء الذي ينص على أن خروج المؤمنين غزاة طائعين لله تعالى سبب في قتلهم وموتهم.

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾

آل عمران: ١٥٦

وهذا الظن السيء، يتكرر ويتجدد، مشابهة للمنافقين السابقين. ولقد شابه المنافقين في الظن السيء، ظن أهل الجاهلية، الذين ظنوا أن الله تعالى لا ينصر رسوله والمؤمنين

– الإعراض عن الحق

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾

الأنفال: ٢٠-٢١

فصفة المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يقولون: نسمع كلام الله، لكنهم لا ينتفعون بما سمعوا، ويتولوا وهم معرضون.

– الخوض في آيات الله بالباطل والاستهزاء بها

من شدة خطورة هذه الصفة، لم ينهنا الله تعالى فقط عن فعلها، بل وعن الجلوس مع الخائضين والمستهزئين بها

قال الله تعالى:

﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾

النساء: ١٤٠

ت  – تقليد أخلاق المشركين

ذكر الله أخلاقًا للمشركين لنكون- نحن المؤمنين- أبعد الناس عنها تشبهًا وتقليدًا وفعلًا. ومن أخلاق المشركين التي نهينا عن التخلق بها

– خلق البطر والرياء

قال الله تعالى:

﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾

الأنفال: ٤٧

– الردة بعد الإسلام والإيمان

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾

آل عمران: ١٠٠

ففي هذه الآية يحذر الله تعالى المؤمنين من طاعة اليهود لانها توصل إلى الكفر والردة بعد الإسلام والإيمان.

ومن الأخلاق التي انتشرت في الجاهلية ونهى القرآن عن التشبه بها أو مقارفتها،

– خلق التبرج

قال الله تعالى:

﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ﴾

الأحزاب: ٣٣

وتبرج الجاهلية: كان بخروج المرأة تمشي بين يدي الرجال، مع تكسر وتبختر ، مما يستدعي به شهوة الرجل.

 6 – آثار التقليد والتبعية

لما كان لكل عمل نتيجة، فالإنسان المكلف يتحمل تبعة تقليده للآخرين، والآثار الناتجة عن ذلك، سواءٌ أكان ذلك في الدنيا أم في الآخرة .

أولًا: آثار التقليد في الدنيا

التقليد لأعمال السوء لا ينتج عنه إلا السوء. ففي الدنيا تنتشر الأمور الآتية:

1- التفرق والميل عن سبيل الله تعالى

قال الله تعالى:

﴿ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ  ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

الأنعام: ١٥٣

جعل الله تعالى البشر فريقين: فريقًا يدعو إلى الجنة، وفريقًا يدعو إلى السعير. والذي يدعو إلى الجنة له طريق واحد لا ثاني له يتلقاه من ربه عز وجل، فيلتزم به ويدعو إليه، أما الذين يدعون إلى النار فإنهم كثيرون، يتلقون الأوامر والنواهي من جهات شتى، فيدعو كل منهم حسب هواه إلى بدعته، ولهذا كانت لهم سبل شتى يدعون إليها أتباعهم، فتكون نتيجتها التفرق والاختلاف والشتات والزيغ والضلال.

2- الخذلان وفقدان النصير

بين الله سبحانه للبشر طريق الخير وأمرهم بها، وبين لهم طريق الشر وحذرهم منها. ومن خالف ذلك متبعًا مخالفي أوامر الله تعالى، كان خصمًا لله تعالى يخذله ولا ينصره.

قال الله تعالى:

﴿ وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾

البقرة: ١٢٠

فالله تعالى بين للمؤمنين حقيقة اليهود والنصارى، وأنهم لا يرضون منا إلا اتباع ملتهم، فجاء التحذير الإلهي: بأن اتباع ملتهم فيه فقدان ولاية الله ونصرته.

3- إحباط الأعمال

ولما كان اليهود يتبعوا ما يسخط الله

قال الله تعالى:

﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾

محمد: ٢٨

ذلك العذاب الذي استحقوه ونالوه؛ بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط الله عليهم من طاعة الشيطان، وكرهوا ما يرضيه عنهم من العمل الصالح ؛ فأحبط أعمالهم .

ثانيًا: آثار التقليد في الآخرة

الآثار السيئة نتيجة للتقليد الأعمى، والاتباع المذموم، يمتد أثرهما إلى يوم القيامة. وهي على النحو الآتي:

1- التلاعن بين الأتباع والمتبوعين

فقد قال الله تعالى عن السبب الذي أوصل التابع والمتبوع إلى التلاعن يوم القيامة

قال الله تعالى:

﴿ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

الأعراف: ٣٨

فالسبب إضلال المتبوع للتابع.

2- التبرؤ والحسرة

ومن الثمار الخبيثة للتقليد والتبعية الهوجاء: التبرؤ، حيث يتبرأ المتبوعون من الأتباع، والحسرة على ما فرطوا في جنب الله تعالى.

قال الله تعالى:

﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ . إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾

البقرة: ١٦٥-١٦٧

3- العذاب المهين والاستقبال المشين في جهنم

استقبال المتبوعين أتباعهم بعدم الترحاب، وبالدعاء عليهم، والتذمر منهم، جزاءً بما كانوا في الدنيا يكسبون، ولكبرائهم يتبعون.

قال الله تعالى:

﴿ هَٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ . جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ . هَٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ . وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ . هَٰذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ . قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ . قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ﴾

ص: ٥٥-٦١

4- التخاصم والتلاوم

أمام الموقف الرهيب، الذي يقترن فيه كل مع شاكلته في المعاصي والآثام، وترتفع الأصوات المتلاومة كل يلقي بالتبعة والمسؤولية على غيره في السبب الذي أوصلهم إلى هذا العذاب الأليم.

قال الله تعالى:

﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ  بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ﴾

سبأ: ٣١-٣2

6- مواجهة التقليد والتبعية

جاء القرآن الكريم يقص علينا أمراض الأمم التي أصيبت بمرض التقليد والتبعية العمياء وعوقبت عليها. ومن الأدوية التي وصفها لنا القرآن الكريم لنتعافى مما ابتلي به كثير من الخلق. الأتي

أولًا: الاعتبار بمصارع القرون الأولى

قص علينا القرآن الكريم قصصًا للغابرين، أظهر فيها عللهم، التي كانت سببًا في دمارهم واستحقاقهم العقوبة من الله تعالى. وقصصهم هذه، فيها الإرشاد والتوجيه للخلق ألا يقعوا فيما وقع فيه هؤلاء السابقون من العلل؛ حتى لا يصيبهم ما أصابهم. فعلى كل من يريد النجاة مما حصل للقرون السالفة عليه أن يتقي الله تعالى ، وألا يكون كالذين من قبلهم في التكذيب.

قال الله تعالى:

﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾

آل عمران :137

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾

يوسف: 109

﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ﴾

غافر: ٢١

ثانيًا: القدوة الحسنة

السنة أن يكون للناس إمام يؤمهم، يحاكون فعله وقوله، ويتبعون أمره، وينصرون فكره. والأنبياء أحسن الناس خلقًا وإيمانًا، وأعلاهم منزلة، والواجب أن يتأسى بهم الناس، وأن يتبعوهم في فعلهم وقولهم . وكانت الوصية الربانية، في اتخاذ الأنبياء عليهم السلام أسوة حسنة ، فالذي يقتدي بأئمة الهدى هؤلاء، هو من آمن بالله واليوم الآخر.

قال الله تعالى:

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾

الممتحنة: ٦

– عن إبراهيم عليه السلام

فعلينا أن نقتدي بإبراهيم والذين معه في خصال الخير، وفي التبرؤ من حولنا وقوتنا إلى حول الله وقوته، وأن نتشبه بهم في التوكل على ربنا، وفي الإنابة إليه، فالمصير إليه.

قال الله تعالى:

﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ﴾

الممتحنة: ٤

– عن النبي صلى الله عليه وسلم

جاء التوجيه الرباني بتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون أسوة حسنة.

قال الله تعالى:

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾

الأحزاب: ٢١

– عن عباد الرحمن

ختمت صفات عباد الرحمن بدعائهم ربهم أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم

قال الله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾

الفرقان: ٧٤

وأئمة الاقتداء والهدى هؤلاء، لا بد لهم من صفات يتصفون بها، وسمات تعلو باطنهم وظاهرهم، ومنها:

– أن تتحدث عنهم أفعالهم أكثر من أقوالهم

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾

الصف 2

– ألا يخالف فعلهم قولهم

مثل شعيب عليه السلام

قال الله تعالى:

﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾

هود: ٨٨

وما أريد أن أخالفكم فأرتكب أمرًا نهيتكم عنه،

-أن يكون القدوة حرًا طليقًا من القيود المذلة

مثل المهنة التي تحجبه عن قول الحق، اقتداءً بالرسل عليهم السلام الذين خاطبوا أقوامهم

قال الله تعالى:

﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾

الأنعام: ٩٠

– العلم

كما أمر الله تعالى نبيه

قال الله تعالى:

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾

محمد: ١٩

فقدم العلم على التوحيد؛ إذ لا نعرف التوحيد إلا بالعلم

ثالثًا: إظهار الصورة المنفرة للمقلدين

من النعم التي أنعم الله بها على الإنسان السمع والبصر والعقل؛ لتكون له عونًا على اتباع الحق، واجتناب الباطل، ومن عطلها عن هذه الوظيفة التي خلقت لأجلها؛ فقد شبهه القرآن الكريم بالبهائم.

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ  أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾

الأعراف: ١٧٩

﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾

الفرقان: ٤٤

﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾

الأنفال: ٢٢

ولقد صور الله تعالى الكافرين بصورة مزرية . والغاية من ذلك تحقير المقلد ليكون ذلك أدعى لدفعه لترك التقليد.

قال الله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾

محمد: ١٢

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾

الجمعة: ٥

رابعًا: إعلان المسؤولية الفردية

المسؤولية الفردية تعني تحمل الإنسان تبعة معتقداته وأفعاله وأقواله، في الدنيا والآخرة، ولا يشاركه أحد في ذلك. ومن عدل الله تعالى أن أرسى هذا المبدأ، فلا يحمل أحد وزر أحد.

قال الله تعالى:

﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ﴾

فاطر: ١٨

ولا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى، وإن تَسْأل نفسٌ مثقَلَة بالخطايا مَن يحمل عنها من ذنوبها لم تجد من يَحمل عنها شيئًا، ولو كان الذي سألتْه ذا قرابة منها من أب أو أخ ونحوهما.

وضرب الله تعالى أمثلة عدة توضحه، تمثلت في أولي العزم من الأنبياء

– إبراهيم عليه السلام مع أبيه

فإبراهيم عليه السلام خاطب أباه أنه لا يملك له من الله شيئًا

قال الله تعالى:

﴿ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾

الممتحنة: ٤

فإبراهيم عليه السلام على مكانته من الله تعالى لا يستطيع أن يمنع أدنى شيء عن أبيه ، وفي هذا إظهار لمبدأ المسؤولية الفردية عن الأعمال .

– نوح عليه السلام مع ولده

قال الله تعالى:

﴿ وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ . قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾

هود: ٤5- 46

وأكد القرآن الكريم هذا النموذج في المسؤولية الفردية بين الابن إبراهيم عليه السلام وأبيه الكافر، وبين الأب نوح عليه السلام وبين ابنه الكافر، حينما جعله مبدأً عامًا بين كل ابن وأب، وبين كل أب وابن

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾

لقمان: ٣٣

كذلك كانت المسؤولية الفردية على مستوى الزوجية، ولم يغن الزوج النبي عن زوجته الكافرة شيئًا ، عن الزوجتين الكافرتين لنوح ولوط عليهما السلام .

قال الله تعالى:

﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾

التحريم: ١٠

إن الصلة بين الزوجين صلة متينة قوية، والعلاقة بينهما علاقة حميمة، وكلًا منهما لباس للآخر، يسترها وتستره، هذه المودة لم تكن لتجدي نفعًا عند الله تعالى حتى في ظل النبوة والرسالة.

 

Share This