1- مفهوم الترف
الترف هو التوسُّعُ في ملاذِّ الدنيا وشهواتها، والانغِماس في الحياة ومُجاوزة حدِّ الاعتدال في التعامُل مع النِّعَم، وبذلُ الجُهد لبُلوغ الغاية في حاجات اللَّذَّات الحسِّيَّة ، مهما ماكانت الوسَيلة . والـمُتْرَفُ هو الـمُتَنَعِّمُ الـمُتَوَسِّعُ في مَلاذِّ الدنيا وشَهواتِها.
قال الله تعالى :
﴿ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
المؤمنون33
جعلهم في سَعَة من العيش والمال ودَلَّلهم .
والتَّرف له جانبان: أحدهما ماديٌّ، وهو التنعُّم، وآخَر معنوي، وهو البطَر.
2- الترف
في
القرآن الكريم
ورد لفظ الترف في القرآن الكريم في 8 مواضع كلها على سبيل الذم
والصيغ التي وردت هي:
– الفعل الماضي
ورد 3 مرات
قال الله تعالى :
﴿ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
المؤمنون:٣٣
– اسم المفعول
ورد 5 مرات
قال الله تعالى :
﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ ﴾
الواقعة:٤٥
ونخلص من هذه المواضع الثمانية إلى جملة من المعاني التالية لمفهوم الترف في القرآن وارتباطاته وعلاقاته بمعانٍ وخصائص أخرى. وهي:
أ – ربط الترف بالفسق وضد الهداية
قال الله تعالى :
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾
الإسراء : 16
ب – ربط الترف بالظلم والسكوت عن الفساد في الأرض
قال الله تعالى :
﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾
هود : 116
ج – ربط الترف بمواجهة الهداية، والدعوة إلى كل ما هو ضد الاستقامة
قال الله تعالى :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾
سبأ : 34
﴿ وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾
الزخرف:23
د – ارتباط الترف بمناهضة الرسل وتكذيب التكليفات الأخلاقية الواردة في رسالاتهم ، ودعوة الناس إلى ذلك .
قال الله تعالى :
﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾
المؤمنون : 33
و- علاقة الترف باستحقاق العذاب من الله لعدم الاتعاظ بالهدى واستحقاق الهلاك لذلك .
قال الله تعالى :
﴿ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ . لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾
الأنبياء : 12- 13
﴿ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ . لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ﴾
المؤمنون 64 – 65
﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ. فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ . وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ . إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ ﴾
الواقعة : 45
3- الألفاظ ذات الصلة
– الإسراف
هو مجاوزة القدر في الإنفاق .
قال الله تعالى :
﴿ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾
الأنعام 141
– التبذير
هو إنفاق المال فيما لا ينبغي أو في أمور لا حاجة لها .
قال الله تعالى :
﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾
الإسراء 27
– التقتير
هو تضييق في النفقة ، ويقابله الإسراف .
قال الله تعالى :
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾
الفرقان 67
– الشح
هوحرص النفس على ما ملكت وبخلها به .
قال الله تعالى :
﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾
النساء: ١٢٨
4- أسباب الترف
الترف ظاهرة اجتماعية، وآفة إنسانية خطيرة، تنشأ وتظهر لأسباب ودواعٍ كثيرة، قد بيّنها القرآن الكريم وسوف نتناولها فيما يأتي:
1- بسط الدنيا ووفرة النعم
انفتاح الدنيا على الناس، ووفرة النعم يكون غالبًا من أكبر دواعي الترف وأسبابه؛ وذلك لأنه يدعو إلى الركون والمتعة والراحة، ويدفع إلى البذخ والإنفاق في غير حاجة، وواقع المجتمعات يشهد بذلك، فإنه كلما بسطت الدنيا على الناس اقتربوا من الترف والبطر، والإنفاق في غير حاجة ترفًا ومباهاة وحبًّا للظهور.
قال الله تعالى:
﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾
الشورى: ٢٧
ولو بسط الله الرزق لعباده فوسَّعه عليهم، لبغوا في الأرض أشَرًا وبطرًا، ولطغى بعضهم على بعض، ولكن الله ينزل أرزاقهم بقدر ما يشاء لكفايتهم. إنه بعباده خبير بما يصلحهم، بصير بتدبيرهم وتصريف أحوالهم.
2- حب النفس للشهوات
حبّب الله تعالى للبشر زينة الحياة الدنيا وزخرفها،
قال الله تعالى:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾
آل عمران: ١٤
وليست المشكلة في ذلك الحب الذي وضعه الله تعالى في القلوب، بل إنه فطري، وضروري لاستمرار الحياة ، ولكنها تكمن في تقديم حبّهم لشهواتهم وملذّاتهم على توحيد الله وإفراده بالعبادة والعمل لدينه .
قال الله تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾
التوبة: ٢٤
قل – يا أيها الرسول- للمؤمنين: إن فَضَّلتم الآباء والأبناء والإخوان والزوجات والقرابات والأموال التي جمعتموها والتجارة التي تخافون عدم رواجها والبيوت الفارهة التي أقمتم فيها، إن فَضَّلتم ذلك على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله فانتظروا عقاب الله ونكاله بكم. والله لا يوفق الخارجين عن طاعته.
3- طول الأمل ونسيان الموت
الانشغال بمتاع الدنيا وشهواتها ناتج عن طول الأمل، ونسيان الإنسان كونه في رحلة إلى الدار الآخرة تكتمل بنزول ملك الموت لقبض الروح، ونظرًا لخطورة تلك الغفلة عن ذلك المصير وما تنتجه من ضعف الخوف من الله تعالى وقلّة الخشية له، وبالتالي عدم المحاسبة للنفس والمراقبة لعملها.
قال الله تعالى:
﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾
الحجر: ٣
اترك – أيها الرسول- الكفار يأكلوا، ويستمتعوا بدنياهم، ويشغلهم الطمع فيها عن طاعة الله، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم الخاسرة في الدنيا والآخرة.
4- الاغترار بالمال والسلطان
– عن قارون
قال الله تعالى:
﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾
القصص: ٧٨
أني فضّلت به على النّاس واستوجبت به التفوق عليهم بالمال والجاه . إنها قوله المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها، ويفتنه المال ويعميه الثراء. وهو نموذج مكرر في البشرية. فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه. ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح، غير حاسب لله حسابًا، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه . إنّ الجاه والمنصب قد يحمل على الظلم، والتعدّي، وعدم المبالاة بحقوق الآخرين، كما هي عادة المترفين
5- ضعف الإيمان
من أبرز أسباب التـرف ضعف الإيمان أو انعدامه، وقلة الوازع الديني؛ فإن الترف مرتبط بالبعد عن دين الله ارتباطًا وثيقًا .
وفي ذمّ القوم المعاندين للرسل الذين أبطرتهم النعمة وصدتهم عن الإذعان للحق النازل من عند الله سبحانه.
قال الله تعالى :
﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ َ
هود: ١١٦
واتَّبع عامتهم من الذين ظلموا أنفسهم ما مُتِّعوا فيه من لذات الدنيا ونعيمها، وكانوا مجرمين ظالمين باتباعهم ما تنعموا فيه، فحقَّ عليهم العذاب.إنّ النعمة إذا لم تصادف قلبًا مؤمنًا خاشعًا فإنها تتحول في كثير من الأحيان والأحوال إلى أداة للترف والبطر والطغيان.
قال الله تعالى :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾
سبأ: ٣٤ -٣٥
ولا يعني ذلك أن الترف خاصّ بالكفار والمكذبين، بل هو خلقٌ عامّ ينطبق على كل من اتصف به، والله تعالى يذكر صفات القوم ليحذّرنا من الوقوع فيها، وقد وقع كثير من المسلمين في الترف، وهذا راجع إلى ضعف الإيمان، وقلة الوازع، والانغماس في المعاصي، والاغترار ببريق الدنيا وزخارفها .
6- التقليد
إنّ الإنسان يتأثر ببيئته تأثّرًا كبيرًا، فمن نشأ في بيئةٍ مترفةٍ لا تهتم بتربية النّشء على الجلد والخشونة، ولا توجهه في كيفية التعامل مع فتنة الحياة الدنيا وزخرفها، فإنّه يتأثر بذلك حتمًا إلا من رحم الله. وقد جاء في بعض آيات الترف الإشارة إلى تأثّر المترفين ببيئتهم وأسلافهم .
قال الله تعالى :
﴿ وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾
الزخرف: ٢٣
وكذلك ما أرسلنا من قبلك – أيها الرسول- في قرية مِن نذير ينذرهم بحلول عقوبتنا، إلا قال الذين أبطرتهم النعمة من الرؤساء والكبراء إنَّا وجدنا آباءنا في نعمةٍ من الله وهم يعبدون الأصنام، فذلك دليل رضاه عنهم، وكذلك اهتدينا نحن بذلك على آثارهم .
5- مظاهر الترف
للترف مظاهر كثيرة ، من أبرزها ما يلي
1- رفض عقيدة التوحيد
ما من رسول إلا دعا قومه إلى توحيد الخالق سبحانه وتعالى وإفراده بالعبودية.
قال الله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾
النحل: ٣٦
ومن خلال تتبع قصص الأنبياء في القرآن الكريم نجد أن المترفون هم الذين يبادرون إلى تكذيب الأنبياء، وهم الملأ الذين يتولون معارضة الرسل، كما ورد في آيات كثيرة من القرآن.
قال الله تعالى:
﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ . أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ . وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾
ص: ٤-٦
وعجِب هؤلاء الكفار مِن بعث الله إليهم بشرا منهم؛ ليدعوهم إلى الله ويخوَّفهم عذابه، وقالوا: إنه ليس رسولا بل هو كاذب في قوله، ساحر لقومه، كيف يصيِّر الآلهة الكثيرة إلهًا واحدًا؟ إنَّ هذا الذي جاء به ودعا إليه لَشيء عجيب. وانطلق رؤساء القوم وكبراؤهم يحرِّضون قومهم على الاستمرار على الشرك والصبر على تعدد الآلهة، ويقولون إن ما جاء به هذا الرسول شيء مدبَّر يقصد منه الرئاسة والسيادة، ما سمعنا بما يدعو إليه في دين آبائنا ، ما هذا إلا كذب وافتراء.
2- رفض الرسالات
رفض المترفون قبول رسلهم ، وأخذوا يشكّكون فيهم ،و في أصل رسالتهم
ونبوّتهم من الله تعالى .
قال الله تعالى:
﴿ وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾
الزخرف: ٢٣- ٢٤
وكذلك ما أرسلنا من قبلك -أيها الرسول- في قرية مِن نذير ينذرهم عقابنا على كفرهم بنا، فأنذروهم وحذَّروهم سخَطنا وحلول عقوبتنا، إلا قال الذين أبطرتهم النعمة من الرؤساء والكبراء: إنَّا وجدنا آباءنا على ملة ودين، وإنا على منهاجهم وطريقتهم مقتدون. قل لهم أتتبعون آباءكم، ولو جئتكم مِن عند ربكم بأهدى إلى طريق الحق وأدلَّ على سبيل الرشاد مما وجدتم عليه آباءكم من الدين والملة؟ قالوا في عناد: إنا بما أرسلتم به جاحدون كافرون.
3- رفض عقيدة البعث
رفض المترفون الإقرار والإذعان بعقيدة البعث بعد الموت، واستهزءوا برسولهم فيما قال، وواجهوا هذه العقيدة بالسخرية .
قال الله تعالى :
﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ . فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ . وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ . لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ . إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ . وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ . وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ . أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ . قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ . لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾
الواقعة: ٤١ – ٥٠
وأصحاب الشمال ما أسوأ حالهم جزاءهم!! في ريح حارة من حَرِّ نار جهنم تأخذ بأنفاسهم، وماء حار يغلي، وظلٍّ من دخان شديد السواد، لا بارد المنزل، ولا كريم المنظر. إنهم كانوا في الدنيا متنعِّمين بالحرام، معرِضين عما جاءتهم به الرسل. وكانوا يقيمون على الكفر بالله والإشراك به ومعصيته، ولا ينوون التوبة من ذلك. وكانوا يقولون إنكارًا للبعث: أنُبعث إذا متنا وصرنا ترابًا وعظامًا بالية؟ وهذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له. أنُبعث نحن وآبناؤنا الأقدمون الذين صاروا ترابًا، قد تفرَّق في الأرض؟ . قل لهم -أيها الرسول-: إن الأولين والآخرين من بني آدم سيُجمَعون في يوم مؤقت بوقت محدد، وهو يوم القيامة.
4- الترف في متاع الحياة الدنيا
من أبرز مظاهر الترف في الحياة الدنيا ما يلي
أ- الترف في المال
الإنسان بطبعه يحب المال حبًّا كثيرًا؛ فهو وسيلته للعيش في الحياة الدنيا،
قال الله تعالى:
﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾
الفجر: ٢٠
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
الكهف: ٤٦
وقد جعل الله الأموال قيامًا للناس، وقسمها بين عباده كما يشاء،
قال الله تعالى:
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
الزخرف: ٣٢
والمال في الأصل هو مال الله، أعطاه للإنسان وديعة؛ لينفقه على نفسه، وعلى مجتمعه في سبيل الخير،
قال الله تعالى:
﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾
النور: ٣٣
﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾
الحديد: ٧
ولذلك يجب إنفاق المال كما أمر الله تعالى في مرضات الله بعدما يكتسبونه مما أحلّ الله .
قال الله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾
الفرقان: ٦٧
﴿ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ ﴾
النحل 114
﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ﴾
طه 81
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾
فاطر 29
فهذا المال مجالًا لطاعة الله وعبادته لأهل الإيمان والدين، ينفقونه في مرضات الله بعدما يكتسبونه مما أحلّ الله .
وما سبق لا يعني محاربة أو رفض الحياة الهانئة، بل إن الأمر يتعلق بمدى الانغماس في النعيم، فلا يجب إنكار هذا التنعم إذا ما وقع في إطار الاعتدال. أما ما كان منه في إطار المبالغة التي تصل إلى حدّ الإسراف والتبذير فإنه ولا شك مذموم مرفوض.
ب – الترف في الطعام
لا بد للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه .
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾
المؤمنون: ٥١
﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾
البقرة: ١٧٢
لكن البعض يأكل ليس لأجل الحاجة لأكل، بل لأجل التعوّد، فهو مثلا تعوّد على نظام الوجبات الثلاث، والتوسّع في المآكل والمشارب، والتفنّن في إعداد الطعام وتزيينه، والإكثار من الحديث عنه والتفاخر به، والبحث عن أطايبه، والتنادي إلى كل ذلك، والاجتماع عليه والتواصي به، وذلك من مظاهر الترف الذي جعل الجم الغفيـر من الناس يعانون بسببه من السمنة وكثيرٍ من الأمراض الناشئة عن التّخمة.
قال الله تعالى:
﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾
الأعراف: ٣١
فالقصد هو الاعتدال دون التّخمة في الأكل. وهذه قاعدة نافعة، مبعدة للآخذ بها عن الترف، وقد أمرنا بعدم الإسراف في الطعام.
ت – الترف في المسكن والبناء
من مظاهر الترف صرف الأموال الضخمة في بناء المنازل والدور، والتباهي في إعدادها وتصاميمها البديعة في الشكل الخارجي والداخلي، مع الحرص على تعدّد مواقعها، فبعضها للشتاء والآخر للصيف، وبعضها للسكن وبعضها للنزهة، ومع الحرص على سعتها وكثرة غرفها ووجود ملحقات لها ووفرة وسائل الترفيه فيها، مع الإكثار من الفرش الوثيرة والأواني الفاخرة والمتاع الراقي، مع أن الذي يكفي الإنسان من ذلك الشيء القليل، وأيام العمر تقصر، وتأبى أن تتسع للعبد لكي ينتفع بها ويستخدمها.
والقرآن ذكر لنا عن ترف الأمم المترفة السابقة في المسكن والبناء، ومنها
– عن قوم عاد المترفون
قال الله تعالى:
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ . وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾
الشعراء: ١٢٨
أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عاليًا تشرفون منه فتسخرون مِنَ المارة؟ وذلك عبث وإسراف لا يعود عليكم بفائدة في الدين أو الدنيا، وتتخذون قصورًا منيعة وحصونًا مشيَّدة، كأنكم تخلدون في الدنيا ولا تموتون .
– عن قوم ثمود المترفون
قال الله تعالى:
﴿ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ﴾
الشعراء: ١٤٩
فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرًا وبطرًا وعبثًا، من غير حاجة إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها .
فنخلص من هذا إلى أنّ البناء إذا كان للترف والمفاخرة، وعدم الحاجة فهو المنهي عنه، والمذموم صاحبه، أما إذا كان البناء للحاجة مع الاعتدال، وعدم المفاخرة والتباهي فلا شيء في ذلك ، والشرع لم ينه عنه.
ث- الترف في الملبس
قال الله تعالى:
﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾
الأعراف: ٣١
عندما أمر الله تعالى بالزينة في الملبس قصد من ذلك أن تضمن لصاحبها مظهرًا مقبولًا، يستر ما تحته من عورة، ويقي من البرد في فصل الشتاء، ويمنع الحرّ في فصل الصيف، وأن لا يكون في ذلك الملبس أي نوع من الخيلاء . ومن مظاهر الترف جعل المال في الملابس الراقية، والاكتفاء بلبس الجديد والفاخر، حتى كثرت بسبب ذلك الملابس غير المستخدمة في المنازل، وتكدست مع وجود تنوع في الاستعمال حسب تعدد فصول العام، واختلاف أوقات اليوم، ويبرز ذلك الجانب أكثر لدى النساء.
وليس معنى هذا أن نترك زينة الدنيا ونحرّمها على أنفسنا
قال الله تعالى:
﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾
الأعراف: ٣٢
ولكن الأساس في هذا النوع من التنعم وغيره من سائر وجوه التنعم أن ينضبط بحد القصد والاعتدال.
ج – الافتخار بالنفر والجاه
مما درج عليه المترفون في حياتهم افتخارهم بالنفر والجاه، والاستعلاء بهما على الناس، وهذا أمر مطرد بين كل الأمم المترفة .
قال الله تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾
سبأ: ٣٤- ٣٥
هذا هو رد المترفين على كل دعوة إلى الإيمان بالله، وتلك هي حجتهم عند أنفسهم وعند الناس، إنهم بما يملكون من كثرة في الأموال، وما عندهم من كثرة في الأولاد والرجال لن يكونوا تابعين لغيرهم، ولن يجعلوا لأحد كلمة عندهم، حتى ولو كان رسولًا من رسل الله، يدعوهم إلى الله . وأنهم بما لهم من كثرة في المال والأولاد، لن ينزلوا عن مقام السيادة لأحد، ثم إنهم إذا عذّب غيرهم من الفقراء والمستضعفين لن يعذبوا هم .
قال الله تعالى:
﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾
سبأ: ٣٧
والقرآن الكريم لم يترك هذا الاعتقاد عند المترفين دون ردٍّ عليهم وبيان خطئهم، بل بيّن لهم موازين القيم، وأنها مرتبطة بالإيمان والعمل الصالح، وليس بكثرة النفر والأولاد .
قال الله تعالى:
﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾
المؤمنون: ٥٥ -٥٦
وقد بيّن الله تعالى أن التوسعة في النعم على العباد في الدنيا إنما هو امتحان وابتلاء، بخلاف ما يعتقدونه .
قال الله تعالى:
﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾
التوبة: ٥٥
فلا تعجبك – أيها النبي- أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم، إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الحياة الدنيا بالتعب في تحصيلها وبالمصائب التي تقع فيها، حيث لا يحتسبون ذلك عند الله، وتخرج أنفسهم، فيموتوا على كفرهم بالله ورسوله.
والمتمعن فيما سبق يعرف أن السبب الرئيس للتكذيب من قبل المترفين لأنبيائهم، ألا وهو خوفهم من زوال النعم والشهوات التي نعّموا بها، من قبيل كثرة الأموال والأولاد، واستعلاؤهم بما آتاهم الله من فضله ونعمائه، حيث اعتقدوا أنّ الفيصل في المفاضلة بين الناس هو الثروة .
6- أخلاق المترفين
المتأمل في نصوص القرآن الكريم يجد أن الله تعالى ذمّ الترف والمترفين، وذكر للمترفين أخلاقًا عرفوا بها في القرآن الكريم، منها
1- الكبر
من أخلاق المترفين الكبر، وهو بطر الحقّ، وغمط النّاس. ونجد الكبر ورفض الحقّ واضحًا جليًّا في مقابلة الملأ المترفين لدعوة رسلهم وأنبيائهم.
عن رد الملأ المترفين المستكبرين علي نوحٍ عليه السلام
قال الله تعالى:
﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾
هود: ٢٧
فقال رؤساء الكفر من قومه: إنك لست بمَلَك ولكنك بشر، فكيف أُوحي إليك مِن دوننا؟ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أسافلنا وإنما اتبعوك من غير تفكر ولا رويَّة، وما نرى لكم علينا من فضل في رزق ولا مال لـمَّا دخلتم في دينكم هذا، بل نعتقد أنكم كاذبون فيما تدَّعون.
2- الحرص على الشهوات والمتع
من أخلاق المترفين التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم، الحرص على الشهوات والمتع والزينة. فأهل الترف يؤثرون الشهوات والمتع في الدنيا على الآخرة.
قال الله تعالى:
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾
الإسراء: ١٦
وإذا أردنا إهلاك أهل قرية لظلمهم أَمَرْنا مترفيهم بطاعة الله وتوحيده وتصديق رسله، وغيرهم تبع لهم، فعصَوا أمر ربهم وكذَّبوا رسله، فحقَّ عليهم القول بالعذاب الذي لا مردَّ له، فاستأصلناهم بالهلاك التام.
أن الترف هو الباعث على الفسوق والعصيان والظلم والإجرام، ويظهر ذلك أول ما يظهر في السادة والرؤساء، ومنهم ينتقل إلى العامة والدهماء فيكون ذلك سببًا في الهلاك بالاستئصال .
7- سلوك المترفين
الترف آفة مفسدة ومتى استوطنت كيانًا نخرته ونشرت فيه شتى العلل والأوبئة، وأظهرت عليه الكثير من السلوكيات السيئة، ولقد أشار القرآن الكريم إلى شيء من سلوك المترفين
1- التمرد على أحكام الشرع
من النماذج القرآنية التي يتجلّى فيها سلوك التمرّد على الشرع وتعاليم السماء عند المترفين هو ما قصّه الله علينا في شأن قوم ثمود.
قال الله تعالى:
﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ . فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ . وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ . وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾
المؤمنون: ٣١ – ٣٤
ففي هذه الآيات يظهر سلوك التمرد عند الملأ المترف ، وكيف أنهم استقبلوا دعوة نبيهم لا بالطاعة والإذعان، ولكن بالرفض والإنكار والتكذيب.
2- الجزع والفزع عند المصيبة
قد ظهر في العنصر السابق كيف أن التمرد هو مسلك أهل الترف، والمرء قد يخال أن المترفين لفرط تمردهم أقوياء، وأنهم لعتوّ عصيانهم أشداء، ولكن على العكس تمامًا فهم خوّراون جبناء لا ثبات لهم إذا دهمتهم مصيبة، ولا صبر لهم إن نزل بساحتهم بلاء.
قال الله تعالى :
﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ . فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ . لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ . قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ . فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ﴾
الأنبياء: ١١ – ١٥
وفي هذه الآيات يظهر مدى شدة فزع المترفين والذعر الذي يملأ نفوسهم إذا حلت بهم الكوارث وكيف أنهم يولون هاربين .
قال الله تعالى:
﴿ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾
المؤمنون:٦٤
وهذا يدل على غاية الضعف والخور؛ فالإنسان لا يصرخ إلا إذا كان في محنة لا تقدر أسبابه على دفعها، فيصرخ طلبًا لمن ينجده، ويرفع صوته ليسمع كلّ من حوله.
وهكذا يظهر سلوك المترفين، وكيف أنهم يكونون أشدّ ما يكونون خوفًا وفزعًا عند المصائب، وأنهم لا يصبرون على الابتلاء، بل يخرّون صاغرين أمام أي شدة، أو كارثة تصيبهم .
8- عاقبة المترفين
يجلب الترف الهلاك والدمار ليس على أصحابه فحسب، بل على المجتمع بأسره، ولذلك توعّدهم الله بعقاب أليم كما أنه نوّع عقوبتهم، فمنها ما هو دنيوي، وما هو أخروي.
أ – العقاب الدنيوي
ذكر الله صورًا لعقاب المترفين في الدنيا منها
1- التدمير والإهلاك
قال الله تعالى:
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾
الإسراء: ١٦
وها هنا يخبر الرب تبارك وتعالى أنه إذا أرد إهلاك قرية لظلمهم وفجورهم أمر مترفيهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة. وحقّ عليهم بذلك الهلاك والدمار. وإنما خصّ المترفين بالذكر؛ لأن العامة والدهماء يقلدونهم فيما يفعلون؛ ولأنهم أسرع إلى الفجور وأقدر على الوصول إلى سبله.
2- انقطاع الذكر
عن قوم ثمود
قال الله تعالى :
﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ . فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ . وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ . وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ . أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ . هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ . إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ . إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ . قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ . قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ . فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ ﴾
المؤمنون: ٣1 – ٤١
وهؤلاء لما تخلوا عن الخصائص التي كرّمهم الله بها، وغفلوا عن حكمة وجودهم في الحياة الدنيا، وقطعوا ما بينهم وبين الملأ الأعلى، لم يبق فيهم ما يستحق التكريم، فإذا هم غثاء كغثاء السيل، والغثاء ما يجرفه السيل من حشائش وأعشاب وأشياء مبعثرة لا خير فيها، ولا قيمة لها، ولا رابط بينها ، ملقى بلا اهتمام. ويزيدهم على هذه المهانة الطرد من رحمة الله .
ب – العقاب الأخروي
إذا كانت عاقبة المترفين في الدنيا هي الإهلاك والتدمير، وانقطاع الذكر، فما لهم في الآخرة أعظم وأشد .
قال الله تعالى:
﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ . فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ . وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ . لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ . إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ ﴾
الواقعة: ٤١ – ٤٥
وأصحاب الشمال ما أسوأ حالهم جزاءهم!! في ريح حارة من حَرِّ نار جهنم تأخذ بأنفاسهم، وماء حار يغلي، وظلٍّ من دخان شديد السواد، لا بارد المنزل، ولا كريم المنظر. إنهم كانوا في الدنيا متنعِّمين بالحرام، معرِضين عما جاءتهم به الرسل.
أحدث التعليقات