1- معنى الإسراف

هو مجاوزة الحد في كل أمر يضر بمصالح الدنيا والآخرة

قال الله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ﴾

الفرقان: ٦٧

يعني: لم يجاوزوا الحد في الإنفاق بالإنفاق في الحرام أو في ما لا ينبغي.

2- كلمة الإسراف

     في

   القرآن الكريم

وردت كلمة الإسراف وصيغها في القرآن الكريم  ٢٣ مرة . والصيغ التي وردت هي:

– الفعل الماضي

ورد مرتين

قال الله تعالى:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾

الزمر:٥٣

– الفعل المضارع

ورد ٤ مرات

قال الله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾

الفرقان:٦٧

– المصدر

ورد مرتين

قال الله تعالى:

﴿ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا ﴾

النساء:٦

– اسم الفاعل

ورد ١٥ مرة

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾

غافر:٢٨

ولفظ (الإسراف) ورد في القرآن الكريم على ستة معان، هي وفق التالي:

1- التجاوز عن الحد المشروع

قال الله تعالى:

( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا )

الأعراف:31

أي: لا تسرفوا في الأكل والشرب، وتجاوز الحد الذي شرعه الله لكم.

2- الشرك بالله

قال الله تعالى:

( وأن المسرفين هم أصحاب النار )

غافر:43

يعني المشركين.

3- الحرام

في أموال اليتامى

قال الله تعالى:

( فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا )

النساء:6

أي: حراماً .

4- خلاف ما يجب فعله شرعاً

قال الله تعالى:

( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل )

الإسراء:33

أي: لا يقتل غير القاتل تشفياً وانتقاماً.

5- النفقة في المعصية

قال الله تعالى:

( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا )

الفرقان:67

أي: لم ينفقوا أموالهم في معصية الله

6- الإفراط في المعاصي

قال الله تعالى:

( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم )

الزمر:53

أي: أكثروا من فعل الذنوب، وأفرطوا على أنفسهم بارتكاب المعاصي.

وبما تقدم يتبين، أن المعنى الرئيس الذي يدور حوله لفظ (الإسراف) إنما هو تجاوز الحد المشروع، فكل من تجاوز ما شرعه الله فهو مسرف، و(الإسراف) قد يكون بفعل المعاصي، وقد يكون بفعل الشرك، وقد يكون زيادة في فعل مباح أو مطلوب، وقد يكون نقصاً في فعل مطلوب، فكل ذلك تجاوزٌ لما شرعه الله لعباده، ورضيه لهم.

3- الألفاظ ذات الصلة

– التبذير

إنفاق المال في فيما لا ينبغي .

قال الله تعالى:

﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴾

الإسراء 26

– السفه

هو عبارة عن التصرف في المال بخلاف مقتضى الشرع والعقل بالتبذير فيه والإسراف .

قال الله تعالى:

﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ﴾

النساء 5

ولا تؤتوا – أيها الأولياء- من يُبَذِّر من الرجال والنساء والصبيان أموالهم التي تحت أيديكم فيضعوها في غير وجهها،

– التقتير

تقليل النفقة، ويقابله الإسراف، وهما مذمومان .

قال الله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾

الفرقان 67

– القصد

القصد هو عدم تجاوز الحد أي الاعتدال ، فهو ترك الإسراف والتقتير جميعًا .

قال الله تعالى:

﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ﴾

فاطر 32

فمنهم ظالم لنفسه بفعل بعض المعاصي، ومنهم مقتصد، وهو المؤدي للواجبات المجتنب للمحرمات، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، أي مسارع مجتهد في الأعمال الصالحة، فَرْضِها ونفلها .

4- مجالات الإسراف

للإسراف مجالات تتناولها المطالب الآتية:

1– الإسراف في الذنوب

فالإسراف يطلق على الإفراط في الذنوب والمعاصي والكبائر

قال الله تعالى:

( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا )

آل عمران 147

ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وما وقع منا مِن تجاوزٍ في أمر ديننا

قال الله تعالى:

( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )

الزمر 53

قل – أيها الرسول- لعبادي الذين تمادَوا في المعاصي، وأسرفوا على أنفسهم بإتيان ما تدعوهم إليه نفوسهم من الذنوب: لا تَيْئسوا من رحمة الله؛ لكثرة ذنوبكم، إن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها مهما كانت، إنه هو الغفور لذنوب التائبين من عباده، الرحيم بهم.

ومن النماذج الذين أسرفوا على أنفسهم بفعل الفاحشة قوم لوط عليه السلام

قال الله تعالى:

( وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ. إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾

الأعراف: ٨٠ – ٨١

واذكر – أيها الرسول- لوطًا عليه السلام حين قال لقومه: أتفعلون الفعلة المنكرة التي بلغت نهاية القبح؟ ما فعلها مِن أحد قبلكم من المخلوقين.إنكم لتأتون الذكور ، شهوة منكم لذلك، غير مبالين بقبحها، تاركين الذي أحلَّه الله لكم من نسائكم، بل أنتم قوم متجاوزون لحدود الله في الإسراف.

قال الله تعالى:

( إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ )

غافر 28

إن الله لا يوفق للحق مَن هو متجاوز للحد، بترك الحق والإقبال على الباطل، كذَّاب بنسبته ما أسرف فيه إلى الله.

2– الإسراف في المال

قال الله تعالى:

( كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )

الأنعام 141

كلوا – أيها الناس- مِن ثمره إذا أثمر، وأعطوا زكاته المفروضة عليكم يوم حصاده وقطافه، ولا تتجاوزوا حدود الاعتدال في إخراج المال وأكل الطعام وغير ذلك. إنه تعالى لا يحب المتجاوزين حدوده بإنفاق المال في غير وجهه.

قال الله تعالى:

( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )

الأعراف 31

وكلوا واشربوا من طيبات ما رزقكم الله، ولا تتجاوزوا حدود الاعتدال في ذلك. إن الله لا يحب المتجاوزين المسرفين في الطعام والشراب وغير ذلك.

قال الله تعالى:

( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا )

الفرقان 67

أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، وخير الأمور أوسطها

3- الإسراف في القصاص

قال الله تعالى:

( وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا )

الإسراء 33

ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قَتْلها إلا بالحق الشرعي كالقصاص . ومن قُتِل بغير حق شرعي فقد جعلنا لولي أمره مِن وارث أو حاكم حجة في طلب قَتْل قاتله أو الدية، ولا يصح لولي أمر المقتول أن يجاوز حدَّ الله في القصاص كأن يقتل بالواحد اثنين أو جماعة، أو يُمَثِّل بالقاتل، إن الله معين وليَّ المقتول على القاتل حتى يتمكن مِن قَتْله قصاصًا.

4– الإسراف في العصيان

قال الله تعالى:

( وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ )

طه 127

وهكذا نعاقب مَن أسرف على نفسه فعصى ربه، ولم يؤمن بآياته بعقوبات في الدنيا، ولَعذاب الآخرة المعدُّ لهم أشد ألمًا وأدوم وأثبت؛ لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.

قال الله تعالى:

( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ )

المائدة 32

ولقد أتت بني إسرائيل رسلُنا بالحجج والدلائل على صحة ما دعَوهم إليه من الإيمان بربهم، وأداء ما فُرِضَ عليهم، ثم إن كثيرًا منهم بعد مجيء الرسل إليهم لمتجاوزون حدود الله بارتكاب محارم الله وترك أوامره.

5- الإسراف في العلو والتكبر

فهذا النوع الأول من المسرفين وهو أشد المسرفين قبحًا وتجبرًا .

– فرعون وملؤه

استكبر فرعون هو وقومه عن الإيمان بالله وتصديق رسله، بل علا في الأرض.

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾

القصص: ٤

ويذكر لنا الله تبارك وتعالى عن فرعون وهو يصف نفسه، وتباهيه بما له من ملك ومن سلطان، وتساؤله في فخر وخيلاء

قال الله تعالى:

﴿ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

الزخرف: ٥١

وقد تجاوز كل الحدود في الكبر والعتو

قال الله تعالى:

﴿ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾

يونس: ٨٣

وادعى الإلهية وأمر الناس بعبادته

قال الله تعالى:

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ﴾

النازعات: ٢٤

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي ﴾

القصص: ٣٨

واسْتَخَفَّ فرعون عقول قومه فدعاهم إلى الضلالة، فأطاعوه وكذبوا موسى،

قال الله تعالى:

﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾

الزخرف 54

وحق لموسى بعد هذا كله أن يدعوا عليهم بالهلاك؛ ليريح الأرض من شرهم:

قال الله تعالى:

﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ﴾

الدخان: ٢٢

فاستجاب الله له فأهلكهم بالغرق

قال الله تعالى:

﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾

البقرة 50

6- الإسراف في الكفر والتكذيب

أطلق القرآن الكريم في آياته المسرفين على كل من يكفر أويكذب بنسبته ما أسرف فيه إلى الله وكذلك على كل شاكٍّ في وحدانية الله تعالى .

أ- على الكفار

قال الله تعالى:

﴿ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ ﴾

طه: ١٢٧

وهكذا نعاقب مَن أسرف على نفسه فعصى ربه، ولم يؤمن بآياته بعقوبات في الدنيا، ولَعذاب الآخرة المعدُّ لهم أشد ألمًا وأدوم وأثبت؛ لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.

ب – على الكذاب

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾

غافر: ٢٨

إن الله لا يوفق للحق مَن هو متجاوز للحد، بترك الحق والإقبال على الباطل، كذَّاب بنسبته ما أسرف فيه إلى الله.

ت – على المرتاب

قال الله تعالى:

﴿ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾

غافر: ٣٤

يُضِلُّ الله كل متجاوز للحق، شاكٍّ في وحدانية الله تعالى، فلا يوفقه إلى الهدى والرشاد.

أحد النماذج التي ذكرها القرآن في الإسراف في الكفر والتكذيب

– كفار قريش

قال الله تعالى:

﴿ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ﴾

الزخرف: ٥

أفنُعْرِض عنكم، ونترك إنزال القرآن إليكم لأجل إعراضكم وعدم انقيادكم، وإسرافكم في عدم الإيمان به؟

7- الأسراف بالفساد في الأرض

كثيرًا ما استعمل القرآن ذكر الأرض مع ذكر الإفساد

قال الله تعالى:

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾

البقرة: ١١ – ١٢

﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾

البقرة: ٢٧

﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾

الأعراف: ٥٦

ومع الصنف الذين أسرفوا بعمل جميع المفاسد كلها من أصناف المسرفين الذين ذكرهم الله تعالى وهم «بنو إسرائيل»،

قال الله تعالى:

﴿ مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا  وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ  ﴾

المائدة: ٣٢

5- المؤمنون والإسراف

أثنى الله تعالى في كتابه على المؤمنين بتوسطهم في الإنفاق، وسوف نتناول ذلك في النقاط الآتية:

1- التوسط في الإنفاق

ذكر لنا سبحانه وتعالى صفات المؤمنين الذين هم عباد الرحمن، وجعل من صفاتهم الحميدة التي يتصفون بها هي: عدم الإسراف في الإنفاق، وعدم الإقتار فيه.

قال الله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾

الفرقان: ٦٧

في هذه الآية الكريمة يمدح الله تعالى عباده الصالحين بتوسطهم في الإنفاق، أي ليسوا مبذرين في إنفاقهم، فيصرفوا فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصروا في حقهم فلا يكفوهم بل عدلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا .

2- الدعاء بطلب المغفرة لما بدر منهم

فالمؤمن يعيش دائمًا بين الخوف والرجاء، يخشى عذاب الله تعالى ويرجو رحمته .

فيقص القرآن علينا خبر قوم من الربانيين المجاهدين الصابرين يلجأون إلى الله، ويدعونه أن يغفر لهم ذنوبهم، وإسرافهم في أمرهم.

قال الله تعالى:

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾

آل عمران: ١٤٦-١٤٨

كثير من الأنبياء السابقين قاتل معهم جموع كثيرة من أصحابهم، فما ضعفوا لِمَا نزل بهم من جروح أو قتل؛ لأن ذلك في سبيل ربهم، وما عَجَزوا، ولا خضعوا لعدوهم، إنما صبروا على ما أصابهم. والله يحب الصابرين. وما كان قول هؤلاء الصابرين إلا أن قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وما وقع منا مِن تجاوزٍ في أمر ديننا، وثبِّت أقدامنا حتى لا نفرَّ من قتال عدونا، وانصرنا على مَن جحد وحدانيتك ونبوة أنبيائك. فأعطى الله أولئك الصابرين جزاءهم في الدنيا بالنصر على أعدائهم، وبالتمكين لهم في الأرض، وبالجزاء الحسن العظيم في الآخرة، وهو جنات النعيم. والله يحب كلَّ مَن أحسن عبادته لربه ومعاملته لخلقه.

3- عدم طاعة المسرفين

يذكر لنا الله تعالى في كتابه موقفًا آخر لمواقف المؤمنين من أهل الإسراف، وهو التحذير من أهل الإسراف وعدم طاعتهم فيما يأمرون به، وكان ذلك الموقف من نبي الله صالح عليه السلام لقومه في تحذيره لقومه أن لايطيعوا أمر المسرفين.

قال الله تعالى:

﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ . الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾

الشعراء: ١٥١-١٥٢

فهذا هو حال الأنبياء وأهل الإيمان يحذرون قومهم من طاعة أهل الإسراف والكفر والمعاصي، الذين وصفهم ودأبهم الإفساد في الأرض بعمل المعاصي والدعوة إليها إفسادًا لا إصلاح فيه، وهذا أضر ما يكون؛ لأنه شر محض، وكأن أناسًا عندهم مستعدون لمعارضة نبيهم موضعون في الدعوة لسبيل الغي فنهاهم صالح عليه السلام عن الاغترار بهم، وطاعة أمرهم.

6- المسرفون والتوبة

الأصل في الإنسان عدم العصمة، ولا تكون العصمة إلا لمن عصمه الله من جنس الذنوب، وليس جميع الذنوب؛ ولذلك قد يخطئ الإنسان ويقع في أخطاء تتطلب اللجأ إلى الله لطلب التوبة والمغفرة، وقد نادى الله تعالى في كتابه هذا الصنف من الناس .

قال الله تعالى:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ  إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا  إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

الزمر: ٥٣

في هذه الآية نداءٌ من الله لكل مسرفٍ : يا عبادي الذين تمادَوا في المعاصي، وأسرفوا على أنفسهم بإتيان ما تدعوهم إليه نفوسهم من الذنوب: لا تَيْئسوا من رحمة الله؛ لكثرة ذنوبكم، إن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها مهما كانت، إنه هو الغفور لذنوب التائبين من عباده، الرحيم بهم.

7- عاقبة المسرفين

ذكر الله تعالى لنا في القرآن الكريم عن أنواع العذاب الذي يلحق أهل الإسراف، وهذا العذاب في الدنيا والآخرة  ، وهو ما يلي

1-عدم الهدي

قال الله تعالى:

( إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ )

غافر 28

إن الله لا يوفق للحق مَن هو متجاوز للحد، بترك الحق والإقبال على الباطل، كذَّاب بنسبته ما أسرف فيه إلى الله.

2– الضلال

قال الله تعالى:

( كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ )

غافر 34

يُضِلُّ الله كل متجاوز للحق، شاكٍّ في وحدانية الله تعالى، فلا يوفقه إلى الهدى والرشاد.

3– الهلاك

قال الله تعالى:

( ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ )

الأنبياء 9

– عن قوم لوط عليه السلام

قال الله تعالى:

﴿ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ . مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴾

الذاريات: ٣٢-٣٤

قال إبراهيم عليه السلام، لملائكة الله: ما شأنكم وفيم أُرسلتم؟ قالوا: إن الله أرسلنا إلى قوم قد أجرموا لكفرهم بالله؛ لنهلكهم بحجارة من طين متحجِّر، معلَّمة عند ربك لهؤلاء المتجاوزين الحدَّ في الفجور والعصيان.

4– النار

قال الله تعالى:

( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ )

غافر 43

وأن الذين تعدَّوا حدوده بالمعاصي وسفك الدماء والكفر هم أهل النار.

5– العذاب

قال الله تعالى:

( وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَن أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ )

طه 127

وهكذا نعاقب مَن أسرف على نفسه فعصى ربه، ولم يؤمن بآياته بعقوبات في الدنيا، ولَعذاب الآخرة المعدُّ لهم أشد ألمًا وأدوم وأثبت؛ لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.

6– غضب الرب

قال الله تعالى:

( إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )

الأنعام 141

إنه تعالى لا يحب المتجاوزين حدوده بإنفاق المال في غير وجهه.

7- تزيين الباطل

قال الله تعالى:

﴿ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

يونس: ١٢

زين لهم الغرور والإسراف فيه ما كانوا يعملونه من شرور وآثام وظلم للعباد وطغيان في أنفسهم .

8- الأساليب القرآنية

       في

النهي عن الإسراف

وفيه ثلاثة أوجه

1- أسلوب الطلب

مما جاء في النهي عن الإسراف في النفقة

قال الله تعالى:

﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾

الأعراف 31

2- أسلوب المدح والذم

قال اﷲَّ تعالى في صفات المؤمنين، ممتدحا أهل الوسطية في النفقة  الذين لا يبخلون ولا يسرفون

قال الله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾

الفرقان :٦٧

و في الذم

قال الله تعالى:

( إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ )

غافر 28

3- أسلوب الثواب والعقاب

قال الله تعالى:

( وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَن أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ )

طه 127

قال الله تعالى:

﴿ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ . مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴾

الذاريات: ٣٢-٣٤

4- أسلوب الترغيب والترهيب

القرآن ذو صبغة ترغيبية وترهيبية واضحة.

– في مقام الترغيب

قال الله تعالى:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ  إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

الزمر 53

– في مقام الترهيب

قال الله تعالى:

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا  وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىٰ . وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ  وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ ﴾

طه 124- 127

وسياق الترهيب واضح في ذلك.

Share This