مفهوم الأبوة في القرآن الكريم

1- مفهوم الأبوة

الأبوة هى رباطٌ يربط الأب بذريَّته .

2- كلمة الأبوة

      في

 القرآن الكريم

وردت كلمة (أبو) في القرآن الكريم ١١٧ مرة. والصيغ التي وردت عليها هي:

– المفرد

ورد  ٤٦ مرة

قال الله تعالى:

﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾

الأحزاب:٤٠

– المثنى

ورد  ٧ مرات

قال الله تعالى:

﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾

الكهف:٨٠

– الجمع

ورد ٦٤  مرة

قال الله تعالى:

﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ ﴾

النور:٣١

وأطلقت الأبوة في القرآن الكريم على ثلاثة أوجه :

1- الوالد بعينه

قال الله تعالى:

﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴾

عبس:٣٤-٣٥

2- العم

قال الله تعالى:

﴿ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾

البقرة:١٣٣

وإسماعيل كان عم يعقوب.

3- الجد

قال الله تعالى:

﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ﴾

الحج:٧٨

أي: جدكم.

3- الكلمات ذات الصلة

     بكلمة الأبوة

– الوالد

الوالد هو سبب وجود الابن.

– الوالدة

الوالدة  هي التي تضع ولدها المولود.

– الأم

الأم هي امرأة تؤدي دورًا تربطها فيه علاقة أمومة بأطفالها الذين قد يكونون من نسلها البيولوجي أو قد لا يكونون .

– الجد

الجد يطلق غالبًا على أبي الأب وأبي الأم وإن علا.

– العم

العم يطلق على أخي الأب

4- الأبوة الأولى

      في

القرآن الكريم

تبين من خلال التأمل في الآيات القرآنية أن الأبوة الأولى كانت في حق أبينا آدم عليه السلام، باعتباره أبًا للبشر، وأن أولى أبوات المسلمين الموحدين هي أبوة أبينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم، باعتباره أبًا للمسلمين.

1- أبوة آدم عليه السلام للبشر

قال الله تعالى:

﴿ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾

آل عمران: 59

فقد بينت الآية السابقة أن الله تعالى قد خلق  آدم من تراب الأرض ثم قال له كن بشرا فكان . فآدم عليه السلام خلق من غير أب ولا أم ، فهو أبا للبشر .

قال الله تعالى:

﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ﴾

المائدة: 27

فقد بينت الآية السابقة أن الله تعالى قد ذكر خَبَر ابنَيْ آدم قابيل وهابيل، وهو خبرٌ حقٌ .

قال الله تعالى:

﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾

الأعراف: 27

ويلاحظ في هذه الآية الكريمة ذكر الأبوين في حق آدم صلى الله عليه وسلم، وزوجه رحمها الله .

2- أبوة إبراهيم عليه السلام للمسلمين

في الآية بيان أن نبي الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم هو أبو المسلمين .

قال الله تعالى:

﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾

الحج:٧٨

يا أيها الذين آمنوا قد منَّ الله عليكم بأن جعل شريعتكم ليس فيها تضييق ولا تشديد في تكاليفها وأحكامها، كما كان في بعض الأمم قبلكم، هذه الملة السمحة هي ملة أبيكم إبراهيم، وقد سَمَّاكم الله المسلمين مِن قبلُ في الكتب المنزلة السابقة .

5- أنواع الأبوة

     في

القرآن الكريم

نتناول هنا أنواع الأبوة في القرآن من حيث الصلاح والضلال، فمن الآباء من يتصف بالصلاح، ويكونون عونًا لأبنائهم في طاعة الله تعالى، ويجعلهم الله سببًا في نجاتهم من غضب الله تعالى، ومن عقابه، ويوجد آباء ضالون يكونون سببًا في وقوع الأبناء في غضب الله تعالى وفي عقابه.

أولًا- الأبوة الصالحة

ذكر القرآن الكريم نماذج من الأبوة الصالحة ، منها

أ- أبوة لقمان الحكيم رحمه الله

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ . وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ . وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ . وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا  وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ . يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ . وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ . وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾

لقمان:١٢-١٩

– أن الله تعالى قد أعطى لقمان الحكيم رحمه الله نعمة الفقه والعقل والإصابة في القول في غير نبوة؛ وقلنا له: اشكر لله نِعَمَه عليك، ومَن يشكر لربه فإنما يعود نَفْع ذلك عليه، ومن جحد نِعَمَه فإن الله غني عن شكره، غير محتاج إليه، له الحمد والثناء على كل حال.

– واذكر – أيها الرسول- نصيحة لقمان لابنه حين قال له واعظًا: يا بنيَّ لا تشرك بالله فتظلم نفسك؛ إن الشرك لأعظم الكبائر وأبشعها.

– وأَمَرْنا الإنسان ببرِّ والديه والإحسان إليهما، حَمَلَتْه أمه ضعفًا على ضعف، وحمله وفِطامه عن الرضاعة في مدة عامين، وقلنا له: اشكر لله، ثم اشكر لوالديك، إليَّ المرجع فأُجازي كُلا بما يستحق.

– وإن جاهدك- أيها الولد المؤمن- والداك على أن تشرك بي غيري في عبادتك إياي مما ليس لك به عِلم، أو أمراك بمعصية مِن معاصي الله فلا تطعهما ، وصاحبهما في الدنيا بالمعروف فيما لا إثم فيه، واسلك- أيها الابن المؤمن- طريق مَن تاب من ذنبه، ورجع إليَّ بالتوحيد ، ثم إليَّ مرجعكم، فأخبركم بما كنتم تعملونه في الدنيا، وأجازي كلَّ عامل بعمله.

– يا بنيَّ اعلم أن السيئة أو الحسنة إن كانت قَدْر حبة خردل- وهي المتناهية في الصغر- في باطن جبل، أو في أي مكان في السموات أو في الأرض، فإن الله يأتي بها يوم القيامة، ويحاسِب عليها. إن الله لطيف بعباده خبير بأعمالهم.

– يا بنيَّ أقم الصلاة تامة بأركانها وشروطها وواجباتها، وأْمر بالمعروف، وانْه عن المنكر بلطفٍ ولينٍ وحكمة بحسب جهدك، وتحمَّل ما يصيبك من الأذى مقابل أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، واعلم أن هذه الوصايا مما أمر الله به من الأمور التي ينبغي الحرص عليها.

– ولا تُمِلْ وجهك عن الناس إذا كلَّمتهم أو كلموك؛ احتقارًا منك لهم واستكبارًا عليهم، ولا تمش في الأرض بين الناس مختالا متبخترًا، إن الله لا يحب كل متكبر متباه في نفسه وهيئته وقوله.

–  وتواضع في مشيك، واخفض من صوتك فلا ترفعه، إن أقبح الأصوات وأبغضها لصوت الحمير المعروفة ببلادتها وأصواتها المرتفعة

ثانيًا – الأبوة الضالة

أ – قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه

ذكر القرآن الكريم في أكثر من موضع قصة نبي الله تعالى إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر، حيث إن الأب كان كافرًا، هو وقومه يعبدون من دون الله تعالى، فأشفق إبراهيم عليه السلام على أبيه من أن يقع في غضب الله تعالى، سيما في أخص خصوصيات العبادة، وهي توحيد الله تعالى.

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ  .قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ  .وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ﴾

الأنبياء:٥١-٥٧

حيث تبين هذه الآيات الكريمة أن نبي الله تعالى أوتي الرشد والعلم والعناية والحفظ والرعاية من الله تعالى، ومن علامات ذلك أنه أشفق على أبيه وقومه، وقال: ما هذه الأشياء المصورة المصنوعة المشبهة بخلق من خلائق الله تعالى، التي أنتم لها مقبلون، وملازمون لها ومعظمونها.

فأجابه أبوه وقومه: إننا وجدنا آباءنا لها عابدين، فبقينا على ذلك الأمر، فأجابهم إجابة الراشد المعلم من الله تعالى: لقد كنتم في عبادتكم هذه أنتم وآباؤكم الذين ابتدعوا والتزموا تلك العبادة في خطأ بين؛ حيث تعبدون حجارة لا تضر ولا تنفع، وتقليد من هو في خطأ بين يعتبر خطأً بينًا.

فظن أبوه وقومه في بداية الأمر أن نبي الله إبراهيم عليه السلام يلاعبهم، وأرادوا أن يتأكدوا فقالوا: أجئتنا بعلم مستند على دليل قطعي أم أنت في هذا القول من اللاعبين؟

فأجابهم: إن ربكم الذي هو رب السماوات والأرض الذي خلقهن على غير مثالٍ سبق، وأنا على تلكم الحقائق من الشاهدين، بما آتاني الله تعالى من وحيٍ ورشدٍ وعلم، وأقسم بالله تعالى أن يفعل بالأصنام التي يعبدونها سوءًا، أو يجتهد في كسرها بنوعٍ من الاحتيال.

وإن التقليد الأعمى للآباء قد يورث نار جهنم؛ لذلك فإن الأبوة عند المسلمين يجب أن ترتكز على حسن الصحبة في شئون الدنيا لآباء الدم، ومن ثم حسن الصحبة في شئون الآخرة لآباء العلم والدعوة سواء أكانوا آباء دم أو غيرهم.

6 – اتباع الآباء

        في

    القرآن الكريم

هنا سنبين كيفية علاج القرآن الكريم لظاهرة اتباع الأبوة، سواء أكانت الأبوة صالحة أم ضالة؛ إذ قد يتولد على اتباع الأبوة الصالحة أبناء خيرين محبين للدين، وقد يتولد أبناء سوء، وهذا على التغليب، وليس الحصر.

أولًا-  اتباع الأبوة الصالحة

يذكر القرآن الكريم حِرص إبراهيم عليه السلام على أن تَرثه ذريَّته في نبوتِه وإمامتِه .

قال الله تعالى:

 ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾

البقرة :124

واذكر- أيها النبي- حين اختبر الله إبراهيم بما شرع له من تكاليف، فأدَّاها وقام بها خير قيام. قال الله له: إني جاعلك قدوة للناس. قال إبراهيم: ربِّ اجعل بعض نسلي أئمة فضلا منك، فأجابه الله سبحانه أنه لا تحصل للظالمين الإمامةُ في الدين.

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا  وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

البقرة: 130 –  131

ذكر الله تعالى بعض مناقب إبراهيم عليه السلام، بأن الله تعالى اصطفاه في الدنيا، وأنه في الآخرة لمن الصالحين، حيث قال له ربه: أسلم، فأسرع إلى الإجابة بدون تردد: أسلمت لله تعالى، الذي هو رب العالمين، ولم يكتف أبونا إبراهيم عليه السلام بقوله هذا، بل وصى بها بنيه، وقد وصى بذلك أيضًا حفيده يعقوب عليه السلام، حينما قال: إن الله تعالى اختار لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

قال الله تعالى:

﴿ وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾

البقرة:  132

وحثَّ إبراهيمُ ويعقوبُ أبناءهما على الثبات على الإسلام قائلَيْن: يا أبناءنا إن الله اختار لكم هذا الدين- وهو دين الإسلام فلا تفارقوه أيام حياتكم، ولا يأتكم الموت إلا وأنتم عليه.

قال الله تعالى:

﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾

البقرة: 132

ويلاحظ من خلال هذه الآية شدة الحرص من نبي الله تعالى يعقوب عليه السلام على أولاده، حيث كان يحتضر، وكانت وصيته الاطمئنان على حال التوحيد لله تعالى عند أبنائه، فسألهم وأجابوه أنهم يعبدون إلهه وإله آبائه (الأب الأدنى، والعم، والجد)، فهم على ذات الطريق.

ثانيًا – اتباع الأبوة الضالة

قال الله تعالى:

﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ . وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾

الزخرف:٢٢-٢٤

– تأتي هذه الآية الكريمة؛ لتبين أن الله تعالى آتاهم كتابًا، وليس لهم حجة إلا تقليد آبائهم، فقالوا: إنا وجدنا آباءنا على دين، فنحن نتبعه، حتى جعلوا أنفسهم باتباع آبائهم مهتدين.

ثم أخبر الله تعالى أن أمثالهم من السابقين كانوا إذا أرسل فيهم رسول ينذرهم عقابنا على كفرهم بنا، فأنذروهم وحذَّروهم سخَطنا وحلول عقوبتنا، إلا قال الذين أبطرتهم النعمة من الرؤساء والكبراء: إنَّا وجدنا آباءنا على ملة ودين، وإنا على منهاجهم وطريقتهم مقتدون.

– و رد الله تعالى على هؤلاء المعاندين بقوله: قل يا محمد أتتبعون آباءكم، ولو جئتكم مِن عند ربكم بأهدى إلى طريق الحق وأدلَّ على سبيل الرشاد مما وجدتم عليه آباءكم من الدين وملة؟ قالوا في عناد: إنا بما أرسلتم به جاحدون كافرون.

إن الآيات السابقة  تبين أن عقلية الكفار واحدة، في كل زمان ومكان؛ إذ إن مسوغ كفرهم، هو اتباعٌ لهدي آبائهم، دون إعطاء العقل والروح مساحة الاستماع والإصغاء إلى دين الله تعالى.

7- أثار اتباع الأبوة

       في

  الدنيا والآخرة

أولًا- آثار اتباع الأبوة الصالحة في الدنيا والآخرة

1- الآثار في الدنيا

أ- النجاة عند الملمات

قال الله تعالى:

﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾

الصافات:١٠٢- ١٠٧

فإن أدب نبي الله إسماعيل صلى الله عليه وسلم مع ربه بالتزامه طاعة والده النبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بعد أن أخبره بالرؤيا، واستشاره؛ ليرى أيجزع أم يصبر، فكانت الإجابة هي استسلامه هو ووالده لأمر ربهما، ولا شك أنه امتحان صعب، كما بينته هذه الآيات، وعندها نزل الفرج دونما نزول قطرة دم من إسماعيل، وفدى الله تعالى إسماعيل عليه السلام بكبش عظيم.

2- الآثار في الآخرة

أ – النجاة من غضب الله تعالى، ومن عذابه

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾

التحريم:٦

ووقاية الأهل والأولاد، بتأديبهم وتعليمهم، وإجبارهم على أمر الله، فلا يسلم العبد إلا إذا أقام أوامر الله في نفسه، وفيما يدخل تحت ولايته من الزوجات والأولاد، وغيرهم.

ب – إلحاق الذرية بالآباء في الجنة

قال الله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾

الطور:٢١

ثانيًا- آثار اتباع الأبوة الضالة في الدنيا والآخرة

1- الآثار في الدنيا

أ – التكذيب بالحق وعدم الاستجابة له

قال الله تعالى:

﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ . أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾

المؤمنون:٦٨- ٦٩

أي: أفلم يتدبروا القرآن ، ويتفكروا بما فيه، أم جاءهم ما لم يأت لآبائهم الأولين، أم أنهم لم يعرفوا نسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم له جاحدون حاسدون؛ بل يقولون به جنون، بل جاءهم بالحق الذي لا ينكرونه، ولكن أكثرهم يتعامل مع الحق بجحود، ولا شك أن اتباع هدي الآباء هو الذي أورثهم إلى هذه المعاندة، وهذا التكذيب، بما يستحقون بعده غضب الله تعالى.

ب – قلب الحقائق والتدليس فيها

قال الله تعالى:

﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾

يونس:٧٨

تبين هذه الآية الكريمة أن الكفار قالوا لموسى عليه السلام: هل جئتنا لتصرفنا وتحولنا عما وجدنا عليه آباءنا، فقد وجدناهم عبدة أوثان، ونحن على دينهم، وتريد أن يكون لك ولهارون الملك والسلطان في الأرض، وما نحن لكما بمصدقين .

ت – اتباع الأبناء لعاطفة الدم، لا لتحكيم العقل

قال الله تعالى:

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾

البقرة:١٧٠

فإن العاطفة التي سيطرت على عقول وقلوب الأبناء، دونما هداية تذكر، فعميت قلوبهم وعقولهم، واتبعوا ما وجدوا عليهم آباءهم من عبادة غير الله تعالى.

ج- افتراء الكذب على الله تعالى

قال الله تعالى:

﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾

الأعراف:٢٨

فقد احتج هؤلاء المشركون بأمرين: أولهما تقليد الآباء، والآخر الافتراء على الله تعالى، فكانت إجابة القرآن الكريم على الأمر الثاني لفعل الفاحشة، بأن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء ، وإن تقليدهم الأعمى لآبائهم جعلهم يؤمنون بعد حقبة من الزمن من هذا التقليد الأعمى بأن التزامهم بالفحشاء أصبح أمرًا يبنى على دليل وإقرار من الله تعالى.

د- التقليد الأعمى للشرك بالله

قال الله تعالى:

﴿ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾

الشعراء :٧٤

فنزعوا إلى التقليد من غير حجة ولا دليل .

2- الآثار في الآخرة

أ – الدخول إلى جهنم

ولعل أوضح هذه الآثار هو الاستجابة لدعوة الشيطان إلى دخول جهنم،

قال الله تعالى:

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾

لقمان :٢١

أي: وإذا قيل لهؤلاء الكفار من قبل الأنبياء أو الدعاة عمومًا: اتبعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن الذي ملئ هدىً وموعظة، وشفاء لما في الصدور، عندها يكون رد هؤلاء الكفار: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة غير الله تعالى.

8- صلاح الآباء وأثره على الأبناء

إن مكانة الأبوة الصالحة بلغت ذروتها في ديننا الحنيف، فقد سجل القرآن الكريم هذه المكانة؛ لتبلغ بركتها حفظ الأبناء غالبًا، بحسب درجة الإيمان التي يلتزمها الأب من جهة، وبحسب التقدير الإلهي الذي لا يعلم حكمته إلا الله تعالى من جهة أخرى.

أولًا- حفظ الأبناء بصلاح الآباء

قال الله تعالى:

﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾

الكهف :٨٢

وتأتي هذه الآية الكريمة في سياق الحديث عن رحلة العلم، التي قضاها نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم مع الخضر عليه السلام، وتجيب هذه الآية عن المرحلة الثالثة من مراحل التعلم، حينما مرا على قرية، فأبى أهلها أن يضيفوهما، فوجدا جدارًا شارف على الانقضاض، فأقامه الخضر عليه السلام، فقال نبي الله موسى عليه السلام مستغربًا: إن كنت قائمًا هذا الجدار فخذ أجرتك، ففارقه الخضر عليه السلام؛ لأنهما اتفقا على ألا يسأله عن شيء حتى يخبره الخضر عليه السلام ابتداءً، حيث تذكر هذه الآية إخبار الخضر عليه السلام لنبي الله موسى عليه السلام عن قصة الجدار بأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحت هذا الجدار كنزٌ لهما، وكان أبوهما من أهل الصلاح، حيث ذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، فقدر الله تعالى أن يبقى هذا الجدار حتى يبلغا أشدهما ورشدهما، وهيأ لذلك الأسباب، فأعلم الخضر عليه السلام بعلمه وتقديره، وكل هذا رحمة من الله تعالى، رب كل شيء.

قال الله تعالى:

﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا ﴾

النساء:9

وهذه الآية المراد منها، أنّ على الإنسان أن يخشى غائلة بعض أعماله، ليس على نفسه، بل على ذريته، وبالتالي هي تدعو الإنسان قبل أن يقدم على قول أو عمل إلى أن يفكر في أثر هذا العمل على ذريته.

ثانيًا- لا يلزم من صلاح الآباء صلاح الأبناء

قال الله تعالى:

﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ  قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ  وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾

هود:٤٢- ٤٣

فيقول الله تعالى: إن السفينة التي صنعها نوح عليه السلام كانت تجري بهم في موج يعلو ويرتفع حتى يصير كالجبال في علوها، ونادى نوح ابنه -وكان في مكانٍ عَزَل فيه نفسه عن المؤمنين- فقال له: يا بني اركب معنا في السفينة، ولا تكن مع الكافرين بالله فتغرق. قال ابن نوح: سألجأ إلى جبل أتحصَّن به من الماء، فيمنعني من الغرق، فأجابه نوح: لا مانع اليوم من أمر الله وقضائه الذي قد نزل بالخلق من الغرق والهلاك إلا مَن رحمه الله تعالى، فآمِنْ واركب في السفينة معنا، وحال الموج المرتفع بين نوح وابنه، فكان من المغرقين الهالكين.

9- الأبوة والأحكام الشرعية

تعلق بموضوع الأبوة كثير من الأحكام الشرعية، ومنها الأتي

والنسب والمصاهرة، والأكل في بيوت الآباء، وإبداء النساء لزينتهن، ونفي أبوة التبني.

أولًا- الميراث

ورد في القرآن الكريم ما يبين نصيب ميراث الأب

قال الله تعالى:

﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ  فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾

النساء :١١

فقد بينت الآيات السابقة فرضية الميراث، وذكر الله تعالى في رأس هذه الآية بعضًا من أحكامها، ويستمر بيان حكم الميراث المفصل، فيذكر حكم ميراث الأب والأم، فإن كل واحدٍ منهما يأخذ السدس، إن كان للولد الميت ولدٌ، فإن لم يكن للولد الميت أولاد، وورثه أبواه فإن الأم لها الثلث، وللأب الباقي، وإن كان للولد الميت بنت أو أكثر، وزاد بعد الفرض نصيب، فإنه يكون للأب، إضافة إلى السدس الذي كان له، ويبقى للأم حينها السدس فقط.

ثم يبين الله تعالى أن هذه القسمة تكون بعد تنفيذ الوصية الشرعية إن وجدت .

قال الله تعالى:

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾

البقرة:١٨٠

تبين هذه الآية الكريمة فرضية الوصية حين الاحتضار بشيء من المال المتروك للورثة، لصالح الوالدين والأقربين.

ثانيًا- النسب والمصاهرة

ورد في القرآن الكريم ما يبين حكم النسب في حق الأب، من خلال بيان الحرمة المترتبة على النسب .

قال الله تعالى:

﴿ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾

النساء:٢٢

حيث إن هذه الآية الكريمة تبين إبطال عادةٍ عند العرب، حيث كان الرجل منهم يتزوج امرأة أبيه من بعده، وكان ذلك نكاحًا جائزًا عند العرب، فحرمه الله تعالى، ونهى عنه، وتجاوز عما سلف، وبين تعالى أنه من يفعل بعد ذلك سيكون قد فعل محرمًا، وحلت عليه البغضاء الشديدة، وقبح ذلك الفعل طريقًا.

ثالثًا- نفي أبوة التبني

قال الله تعالى:

﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾

الأحزاب :٥

حيث بينت الآية السابقة أن الله تعالى ما جعل أهل التبني أبناء للذين تبنوهم، وأن هذا التبني هو قول من تبنى، فانسبوا أدعياءكم لآبائهم، هو أعدل وأقوم عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم الحقيقيين فادعوهم إذًا بأخوَّة الدين التي تجمعكم بهم، فإنهم إخوانكم في الدين .

رابعا- الحفاظ على الأبناء بعد ولادتهم

الحفاظ على الأبناء وعدم التفريط بهم وإنهاء حياتهم تحت أيّ عنوان من العناوين التي يمكن أن تسوّل لبعض الناس الإقدام على التخلّي عن الولد الذي أتَوْا به إلى الدنيا. ويتّضح ذلك من خلال تحريم الإسلام الإجهاض، وتحريمه وأد البنات، وتحريمه قتل الأولاد خشية الفقر، وذلك في الآيات الآتية على الترتيب:

قال الله تعالى:

﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم منْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾

الأنعام: 15

﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ﴾

الإسراء: 31

﴿  وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ  ﴾

الأنعام: 137

10- عاطفة الأبوة

إن العاطفة القلبية صفة لازمة ثابتة للأبوين؛ إذ إن الله تعالى جعلها مسوغًا لصبر الوالدين على أولادهما، في الرعاية والتربية والحب والحنان، فهي عاطفة فطرية، فطر الله تعالى الوالدين، وجعل الإسلام لها ضوابط ومحاذير. وفي هذا المبحث وتوضيح ذلك من خلال الأتي:

أولًا – عاطفة الأبوة فطرة

أ – لهفة الأبوَّة إلى الأبناء

وعن لهفة الأبوَّة إلى الأبناء يصور لنا القرآن العظيم شوق زكريا عليه السلام إلى الولد .

قال الله تعالى:

 ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا. قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا . وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا )

مريم   3- 6

ب – الحزن عند فقد الإبن

قال الله تعالى:

 ( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ )

يوسف:84

يُصوِّر القرآن لهفة يعقوبَ عليه السلام على ابنه الأثير عنده (يوسف الصديق) عندما تآمر عليه إخوته لأبيه، فألقَوه في غَيَابة الجبِّ، ثم بيع بثمنٍ بخسٍ دراهمَ معدودة إلى عزيز مصر! وزعموا أنَّ الذئب أكلَهُ تيئيساً لأبيهم من لقْياه… فقد ظلَّ أبوه نحوه في ذكر دائم، وشوق لازم يقول: يا حسرتا على يوسف وابيضَّتْ عيناه، بذهاب سوادهما مِن شدة الحزن فهو ممتلئ القلب حزنًا، ولكنه شديد الكتمان له.

ت – الألم عند الفراق

قال الله تعالى:

﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾

يوسف:١٣

أن نبي الله يعقوب عليه السلام قد أظهر بلسانه ما يجول بعاطفته القلبية، التي فطرها الله تعالى عليه، فهو بشر في هذه الصفة الأبوية. قال يعقوب: إني لَيؤلم نفسي مفارقته لي إذا ذهبتم به إلى المراعي، وأخشى أن يأكله الذئب، وأنتم عنه غافلون منشغلون.

ث – التضرع إلى الله تعالى عند

الخشية علي الابن

قال الله تعالى:

 ( وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ )

هود:45

ويصور القرآن الكريم في قصة سيدنا نوح عليه السلام أروع موقف من مواقف الأبوة اللاهفة على البنوة العاقة، فعندما امتنع الابن عن الإيمان برسالة أبيه، ورفض الركوب معه في سفينة النجاة، توجه نوح عليه السلام بقلبه الحنون إلى السماء، وتضرع إلى ربه في لهفة الأب ، طامعًا في إنجائه سبحانه لابنه من الموت .

ج – الحرص علي مصير الابناء

ويذكر القرآن الكريم حرص إبراهيم عليه السلام على أن ترثه ذريته في نبوته وإمامته .

قال الله تعالى:

﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾

البقرة:124

وكان الدعاء بالذرية من إبراهيم عليه السلام دعاءً مخصصًا أن تكون ذرية صالحة، وهكذا يجب أن يكون حال كل مسلم يدعو الله عز وجل بالذرية، فعليه أن يقرنها بأن تكون صالحة، فكم من آباء تمنوا أنهم ما رزقوا بالأبناء من سوء أخلاقهم .

ثانيًا – الموازنة بين عاطفة الأبوة، وعقيدة الولاء

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾

التوبة:٢٣

أي: يا أيها المؤمنون، لا تتخذوا من آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وعشيرتكم وأزوجكم نصراء لكم، ما داموا يحبون الكفر، ويفضلونه على الإيمان، ومن يستنصر بالكافرين فأولئك هم الذين تجاوزوا الطريق المستقيم .

11- الأبوة يوم القيامة

يبين القرآن الكريم حال الأبوين يوم القيامة، وهنا توضيح لذلك، من خلال المسائل الآتية:

أولًا – الفرار

فرار الأب من التزامه تجاه ابنه، أو فرار من التزام الابن تجاه أبيه

قال الله تعالى:

﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴾

عبس :٣٤- ٣٥

فقد بينت الآية السابقة أنه إذا جاء يوم القيامة، ويرى المرء أعز أقاربه، وأخصهم لديه، وأولاهم بالحنو والرأفة والعطف، من: أخ، وأم، وأب، وزوجة، وولد، عندها يفر منهم ويبتعد عنهم؛ لأن الهول عظيم، والخطب جليل.

ثانيًا – الفداء

فلا فداء يذكر؛ إذ إن الناس بين جنة ونار

قال الله تعالى:

﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ﴾

المعارج:١١- 13

فقد بينت الآية السابقة أن يوم القيامة يبصر بعضهم بعضًا، فيتعارفون ، ولا يستطيع أحد أن ينفع أحدًا. يتمنى الكافر لو يفدي نفسه من عذاب يوم القيامة بأبنائه، وزوجه وأخيه، وعشيرته التي تضمه وينتمي إليها في القرابة .

ثالثًا- إلحاق الذرية بالآباء في الجنة

فإذا كان الآباء صالحين، واجتهدوا في صلاح الأبناء، فإن الله تعالى من رحمته يلحق الذرية بآبائهم في الجنة.

قال الله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾

الطور:٢١

ويستفاد من هذه الآية عظيم بركة الآباء الصالحين؛ إذ إن صلاحهم واجتهادهم في إصلاح أبنائهم جعلهم جميعًا في منزلة واحدة في الجنة، فالآية هنا تبين أن الآباء هم بوابة الأمان للأبناء، إن اتبعوا آباءهم بالإيمان بالله تعالى.

Share This