1- مقدمة
الاستدلال أحد وجوه التفكير الإنساني، وأحد الطرق المؤدية للعلم والوصول إلى الحقيقة عبر دليل أو حجة ، وقد اهتم القرآن الكريم بدفع الإنسان إلى النظر والتأمل والمراجعة والاعتبار التاريخي، وذم الظن والتقليد وأحكام الهوى التي تصدر بغير علم، وحفز النفس الإنسانية على تتبع الأسباب، والآثار للحوادث والأقوام والأشخاص وذلك من أجل الاستدلال بها على قضايا كبرى تشغل الإنسان منذ القدم وهي قضايا الخلق والوجود والمصير.
2- مفهوم الاستدلال
الاستدلال هو عملية التَّوَصُّلُ إلى مَعْرِفِةِ الشَّيْءِ وَالبَحْثُ فِيهِ وإِعْمَالُ العَقْلِ بِالحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ لإِثْبَاتِهِ.
وللاستدلال على وجود الله -سبحانه وتعالى- وعظيم قدرته وجليل حكمته، قد جعل القرآن الكريم هذه الأدلة درجات تتناسب مع كافة مستويات خلق الله ، كما في الأيات التالية
قال الله تعالى:
﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ . أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
النمل 60 – 64
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ . وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ . وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ .وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾
الروم 20- 24
3- مميزات المنهج القرآني
في الاستدلال
أهم مميزات المنهج القرآني في الاستدلال ما يأتي:
1- توجيه أدلته إلى جميع المستويات
أن القرآن الكريم يوجّه أدلته إلى الناس أجمعين، بكلّ طوائفهم وفئاتهم ، و يراعى الفوارق الضرورية في الفهم والوعي والثقافة بين من يخاطبهم ، فيخاطب الجاهل الساذج بأدلة تتفق مع إدراكه، ويخاطب الذكي العالم بأدلة تتفق مع علمه وذكائه، ويخاطب الذين هم بين هؤلاء وأولئك من مستويات على قدر مستوياتهم.
انظر إلى هذا الدليل الذي يسوقه الله تعالى مخاطبًا فيه البدوي في صحرائه، يبرهن له على وحدانيته وقدرته .
قال الله تعالى:
( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ )
الغاشية:17-20
إنه يخاطب سذاجة البدوي وسلامة فطرته، فهو لا يعرف من حوله إلا الأرض من تحته والسماء من فوقه، والجبال من أمامه، ودابته التي منها يأكل، ومنها يشرب، ومنها يلبس، وعليها يركب، ولا تطلب منه إلا نظرة سطحية، لا تحتاج إلى عناء تدبر وتفكير، وهي كفيلة بسوقه إلى الإيمان ونبذ الشرك والكفر، وعلى الرغم من ذلك تجد العالم ذا الفكر والعقل ينظر فيها ويغوص في أعماقها ليكشف سرها.
2- مخاطبة العقل والوجدان
المتتبع للأدلة القرآنية يجد أنها جمعت بين هاتين الخصيصتين معًا، تأثير في القلب، وإقناع للعقل، فلا تتلو دليلًا من أدلته إلا وجدته يَنْفَذُ إلى أعماق قلبك ويُقْنع عقلك بما لا يدع أدنى حيرة أو شك فيه ، دون التغلغل في التقسيمات والتدقيقات التي لا يفهمها أكثر الناس واقرأ في ذلك على سبيل المثال
قال الله تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
الأحقاف 33
أغَفَلوا ولم يعلموا أنَّ الله الذي خلق السموات والأرض على غير مثال سبق، ولم يعجز عن خلقهن، قادر على إحياء الموتى الذين خلقهم أوّلا؟ بلى، ذلك أمر يسير على الله تعالى الذي لا يعجزه شيء، إنه على كل شيء قدير.
قال الله تعالى:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى ﴾
فصلت:39
ومن علامات وحدانية الله وقدرته: أنك ترى الأرض يابسة لا نبات فيها، فإذا أنزلنا عليها المطر دبَّت فيها الحياة، وتحركت بالنبات، وانتفخت وعلت، إن الذي أحيا هذه الأرض بعد همودها، قادر على إحياء الخلق بعد موتهم، إنه على كل شيء قدير، فكما لا تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها، فكذلك لا تعجز عن إحياء الموتى.
قال الله تعالى:
﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ . وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ . تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ . وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ . وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ . رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ )
ق:6-11
إن الجمع بين التأثير في القلب والإقناع للعقل ميزة تفردت بها أدلة القرآن عن سائر الأدلة، ذلك أن كلام البشر إن وَفَّى بحق العقل بَخَس القلب حقه، وان وفّى بحق القلب كان على حساب العقل، وكلما كان كلام البشر عاطفيًا كلما ازداد بعدًا عن العقل والإقناع، وكلما كان كلامًا عقليًا كلما ازداد جفاءً وبعدًا عن العاطفة .
قال الله تعالى:
﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ . اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾
الرعد: 1- 4
3- تعتمد على الأمور الموضوعية الواقعية
أن الأدلة القرآنية تعتمد على الأمور الموضوعية الواقعية التي يتعامل معها الإنسان في كلّ وقت ، واقرأ في ذلك على سبيل المثال
قال الله تعالى:
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾
الذاريات: 21
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ . أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا . ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا . فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا . وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا . وَحَدَائِقَ غُلْبًا . وَفَاكِهَةً وَأَبًّا . مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾
عبس: 24-32
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾
لقمان 10
﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾
النحل 72
وهذا من شأنه أن يقرّب الدليل، وييسّر إدراكه، ويمهّد النفس لتقبله، ويقوي الالتزام به، وفي نفس الوقت يقطع السبيل على المجادلين المعاندين، فلا يتيح لهم سبيلًا إلى جحده أو الطعن فيه.
4- تعتمد على ما ركزه اللهُ سبحانه في الفطرة الإنسانية
أن الأدلة القرآنية تعتمد على ما ركزه اللهُ سبحانه في الفطرة الإنسانية من السعي إلى معرفته، والدينونة له؛ ولذا فإن القرآن الكريم يعتمد على البذرة المغروسة في فطرة الإنسان، فهو يغذيها وينميها ويوجه الخطاب إليها، واقرأ في ذلك على سبيل المثال .
قال الله تعالى:
﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ . فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾
يونس: 31-32
5- يسوق الأدلة على هيئة جزئية مفصّلة
أن القرآن الكريم لا يسوق الدليل على صورة عامة مجملة، ولكنه يسوق الأدلة على هيئة جزئية مفصّلة؛ وبذلك يغني عن التفصيل بعد ذلك، وما يحتويه التفصيل من تفريعات قد تلفت النفس عن الهدف الأصلي، فضلًا عن أن الأمور الجزئية تدركها النفس بسهولة ويُسر.
قال الله تعالى:
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ . وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ . أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ . وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
النحل: 10-18
6- تنوّع الأدلة التي يذكرها في المجال الواحد
أن القرآن الكريم ينوّع من الأدلة التي يذكرها في المجال الواحد؛ فأنت تستطيع في أيّ مجال يتحدّث فيه القرآن عن عظيم صنع الله سبحانه أن تجد مجموعة من الأدلة المنسقة المرتبة ترتيبًا بديعًا، بحيث لا تقف من بديع صنع الله سبحانه على مثال واحد بل أمثلة كثيرة متعددة ومتنوعة، فأنت تجد نفسك محاصَرًا بهذه الأدلة التي تأخذ بلُبّك، وتأسر فؤادك، ولا تدعك إلّا وقد أسلمت نفسك للعليم الحكيم.
قال الله تعالى:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ . وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ . وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ . وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾
الروم : 20-25
ونؤكّد أخيرًا من أننا لا نستطيع أن نحيط بتلك الميزات، وحسبنا أن نلفت النظر إلى شيء منها على قدر الجهد والطاقة، فهو حديث العليم الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
4- أنواع الاستدلال
في
القرآن الكريم
يمكن تقسيم الاستدلال في القرآن إلى نوعين اثنين، هما:
أولًا: الاستدلال المباشر
الاستدلال المباشر هو الذي يستدِل بصدق قضية على صدق أخرى أو كذبها، أو الاستدلال بكذب قضية على صدق أخرى أو كذبها . ومن الأمثلة على الاستدلال المباشر في القرآن
قال الله تعالى:
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾
سبأ:3
﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ﴾
التغابن:7
ففي هذه الآية يورد الله قول الكفار بشأن الساعة والبعث واستبعادهم وقوعهما، ويرشد نبيه أن يرد عليهم بالقول المؤكد الصادق أن الساعة واقعة لا محالة. وهنا يستدل على كذب قول الكافرين، وهو عدم وقوع الساعة، بصدق إخبار الله تعالى عن وقوعها .
ثانيًا: الاستدلال غير المباشر
الاستدلال غير المباشر يحتاج فيه لأكثر من قضية، بخلاف المباشر؛ حيث لا يحتاج فيه لأكثر من قضية واحدة. والاستدلال غير المباشر له ثلاث صور:
1- الاستقراء
المنهج الاستقرائي هو منهج بحث يعتمد على البدء بالجزئيات ليصل منها إلى قوانين عامة، وهو يعتمد على التحقق بالملاحظة المنظمة الخاضعة للتجريب والتحكم في المتغيرات المختلفة. والاستقراء منهج اعتمده القرآن في الاستدلال، وكثيرًا ما كان القرآن الكريم يوجه العقول إلى الأتي :
أ – تتبع ودراسة أحوال الأمم الماضية
، وما حل بها من عذاب ونِقَم؛ للتوصل إلى نتيجة عامة، وهي أن كل أمة لا تستقيم على منهاج ربها وشرعه فستلقى المصير الذي واجهته الأمم السالفة.
قال الله تعالى:
( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )
آل عمران :137
( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )
الأنعام11
( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )
يوسف 109
( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ )
النمل 69
ب – السير في الأرض لمعرفة كيف بدأ الله الخلق
في هذه الآية يأمر الله تعالى بالسير في الأرض، الذي هو تتبع ودراسة الجزئيات التكوينية لها، ودراسة نشأتها؛ لاستنتاج القوانين والقواعد الكلية، التي تبين لهم كيف بدأ الله الخلق، وهذا هو منهج الاستقراء بعينه.
قال الله تعالى:
( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
العنكبوت 20
2- القياس
القياس هو أحد طرق الاستدلال غير المباشر، لإثبات حقائق سبق العلم بها، ولكن حصلت الغفلة عن جوانب منها، فيأتي القياس منبهًا عليها أو ملزمًا للخصم بالتسليم بها إذا هو أنكرها ، ومن الأمثلة على القياس في القرآن
– قياس الإعادة على إخراج النبات
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
فصلت 39
– وقياسه على بدئه
﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾
يس 78 – 79
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
الأحقاف 33
3- التمثيل
المثل إحدى طرق الاستدلال غير المباشر التي اتخذها القرآن وسيلة للاستدلال .
قال الله تعالى:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ . مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )
الحج:73-74
إن كل من يستمع لهذا المثل ويتدبره حق تدبره، فإنه يقطع موارد الشرك من قلبه، وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده، وإعدام ما يضره، والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق ذباب، ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب، الذي هو أضعف الحيوان، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما يسلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله، وهذا من أبلغ ما أنزل الله سبحانه في بطلان الشرك، وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم .
5- مقومات الاستدلال
في
القرآن الكريم
ومن مقومات أساليب الاستدلال في القرآن الكريم أنها قامت
أ – على الحق
قال الله تعالى:
( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ )
السجدة : 2
ب – على الصدق
قال الله تعالى:
( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً )
النساء : 122
ت – على الوضوح والإبانة
قال الله تعالى:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً )
النساء : 174
ج – وعلى اليسر
قال الله تعالى:
( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ )
القمر: 17
د – وعلى الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن
قال الله تعالى:
( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )
النحل : 125
6- ألفاظ الاستدلال
في
القرآن الكريم
من الألفاظ القرآنية التي تفيد معنى الدليل وإقامة الحجة في الجدال والنقاش، هذه الألفاظ .
1- البرهان
قال الله تعالى:
( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )
البقرة:111
البُرْهان هو الحُجّة القاطعة البيّنة .
2- البيان
البيان هوما بُيِّنَ به الشيء من الدلالة وغيرها .
قال الله تعالى:
(وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ )
الزخرف:18
وهو في الجدال غير مبين لحجته
قال الله تعالى:
( وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ )
الطلاق:1
ولا يجوز لهن الخروج منها بأنفسهن، إلا إذا فعلن فعلة منكرة ظاهرة مُتَبيِّنة .
و(البيان) ما يتعلق باللفظ، و(التبيان) ما يتعلق بالمعنى.
3- الحجة
الحُجَّةُ هي الدليل والبرهان
– عن قصة إبراهيم مع قومه
قال الله تعالى:
( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ )
الأنعام:80
قال: أتجادلونني في توحيدي لله بالعبادة، وقد وفقني إلى معرفة وحدانيته .
– و في معرض الرد على الكافرين
قال الله تعالى:
( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ )
الشورى:16
أي: ما جاء به أهل الباطل والضلال من أدلة على مذهبهم، ليس له اعتبار، بل هي أدلة باطلة زائلة لا تقوم ولا تصمد أمام ما هو واقع وحق.
4- الدليل
الدَّليل هو ما يُستدل به على الشيء .
قال الله تعالى:
( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا )
الفرقان:45
ومعنى كون الشمس دليلاً: أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل .
5- السلطان
السلطان هو الحجة البيِنة .
قال الله تعالى:
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ )
هود:96
ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا و برهان بيّن ظاهر على وحدانية الله .
قال الله تعالى:
(هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ )
الحاقة:29
معناه: ذهبت عني حجتُي.
وبهذا يتبين أن هذه الالفاظ الخمسة تفيد معنى مشتركًا بينها، وهو إقامة الدليل والحجة، قصد إظهار الحق والحقيقة .
أحدث التعليقات