1- مقدمة
وردت آيات الكثرة والقلة في ثنايا السور التي تتحدث عن المواقف وتصنيف الناس عبر مراحل تاريخ البشرية.
قال الله تعالى:
( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ )
الروم :42
( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ )
ص 24
والقِلَّة في اللغة العربية ضد الكثرة ، وهما يدلان على معنى عددي ليس إلا .
قال الله تعالى:
( حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا )
الجن: 24
2- موقف القرآن الكريم
من
الكثرة والقلة
وردت آيات الكثرة في أكثر من (90) آية، وفي مقابل الكثرة تحدث القرآن عن القلة في أكثر من ثلاثين أية .
يعتقد معظم الناس أن الحق دائمًا في الكثرة، لكن القرآن الكريم ذم الكثرة ومدح القلة على جميع المستويات
قال الله تعالى:
( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا )
الفرقان : ٤٤
( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)
سبأ : 13
لذلك؛ يحذر القرآن من إطاعة المخالفين للحق وإن كانوا كثرة
قال الله تعالى:
( وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ )
الأنعام : 116
كما يحذر من الاغترار بهذه الكثرة
قال الله تعالى:
( قُل لَّا يَسْتَوِي الْـخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْـخَبِيثِ )
المائدة : 100
التي قابلت الرسالة بالموروث مهما كان زيفه وضلاله .
قال الله تعالى:
( إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ . فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ. وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ )
الصافات :69-71
والتي تعددت عليها الحجج والبراهين بما يكفي لهدايتها،
قال الله تعالى:
( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا كُفُورًا )
الإسراء : 89
3- أوصاف الكثرة والقلة
في
القرآن الكريم
أولاً – أوصاف ( الأكثرية ) في القرآن
المراد بمصطلح (الأكثرية) الأغلبية المطلقة، أو معظم الشيء ، والقرآن الكريم من خلال وصفه لأكثر الناس إنما يقرر قاعدة عامة، وسنة كونية، حاصلها أن الخير والصلاح والهداية في البشر عامة قليل، وأن الأكثرية على عكس ذلك، فكثير منهم لا يؤمنون، وكثير منهم لا يعلمون، وكثير منهم لا يشكرون، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تناولها القرآن الكريم. وفيما يلي نحاول أن نتتبع أوصاف (الأكثرية) في القرآن ..
1- وصف الأكثرية بأنهم مشركون
قال الله تعالى:
( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ )
يوسف:106
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين )
الروم :42
فالآيات صريحة في أن أكثر الذين خلوا من قبل كانوا مشركين بخالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم.
2- وصف الأكثرية بأنهم لا يؤمنون
وقد وردت ثلاث عشرة آية تنص على أن أكثر الناس لا يؤمنون
قال الله تعالى:
( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )
يوسف :103
( المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ )
الرعد :1
( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ )
الشعراء :8
( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )
يس:7
( إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ )
غافر:59
3- وصف الأكثرية بأنهم لا يعلمون
حث القرآن على العلم، ومدح أهل العلم، وجعلهم في مرتبة متقدمة عن أهل الجهل، ومع ذلك فقد أخبر سبحانه في مواطن كثيرة ( جملتها سبعاً وعشرين آية ) من كتابه بأن أكثر الناس لا يعلمون ، منها ..
قال الله تعالى:
( وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون )
الأعراف :187
( وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ )
الأنعام :37
( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ )
النحل :75
يخبرنا القرآن أن أكثر الناس لَّا يَعْلَمُونَ ، وهذا العلم المنفي عنهم هو العلم المتعلق بالرسالة والإيمان والسنن الإلهية والشرائع السماوية، وليس العلم الدنيوي،
قال الله تعالى:
( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْـحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ )
الأنبياء: 24
فغالبية أمم الأرض خلَّفت من العمران والآثار والمعارف ما يدل على أن البشرية تسجل تفوقها في هذا المجال ..
قال الله تعالى:
( وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ )
الروم: ٦- ٧
فإن الأكثرية تبني معارفها الدنيوية على اليقين، إلا أنها في شأن الغيب والآخرة تلتمس الهدى في الظنون ..
قال الله تعالى:
( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلَّا ظَنًّا إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْـحَقِّ )
يونس : 36
4- وصف الأكثرية بأنهم لا تشكر
وشكر المنعم من الواجبات، بيد أن الإنسان لا يعترف بما أنعم الله عليه، ولا يشكر خالقه على نعمه التي لا تحصى، ومن ثم جاء الوصف القرآني للأكثرية (وذلك في عشر آيات ) بعدم الشكر، منها ..
قال الله تعالى:
( وَإنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ )
النمل : 73
( وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ )
البقرة :243
( وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ )
يونس :60
( وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ )
الأعراف :17
5- وصف الأكثرية بأنهم كافرون
الأصل في الإنسان أن يولد مفطوراً على الإيمان بالله سبحانه، بيد أن جملة من المؤثرات الخارجية تأخذ بيده ذات اليمين وذات الشمال، فإما تثبِّته على طريق الحق والخير، وإما تدفع به إلى طريق الغواية والضلال. والخطاب القرآني يفيد أن الأكثرية تختار الطريق الثاني.
قال الله تعالى:
( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ )
النحل : 83
( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا )
الإسراء :89
( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا كُفُورًا )
الفرقان :50
( وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ )
الروم : 8
6- وصف الأكثرية بأنهم لا يعقلون
قال الله تعالى:
( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )
المائدة :103
( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ )
العنكبوت :63
( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ )
الحجرات:4
وهذه الآيات تخبر أن أكثر الناس لا يُعملون عقولهم فيما أنعم الله عليهم من خيرات ونعم، ولا يتأملون فيما بثه حولهم من آيات وعبر.
7- وصف الأكثرية بأنهم فاسقين
قال الله تعالى:
( وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ )
الأعراف : 102
أي: ما وجدنا لأكثر الناس من وفاء بعهودهم في الإيمان والتقوى بل الحال والشأن أننا علمنا أن أكثرهم فاسقون، خارجون عن طاعتنا، تاركون لأوامرنا، منتهكون لحرماتنا
8- وصف الأكثرية بأنهم لا يسمعون
قال الله تعالى:
( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ )
فصلت :3-4
المراد بـ (الأكثر) هنا: الكافرون الذين لا ينتفعون بهدايات القرآن الكريم. فأعرض أكثرهم عن هداياته؛ فهم لا يسمعون سماع تدبر واتعاظ، وإنما يسمعون بقلوب قاسية، وعقول خالية من إدراك معانيه، ومن الاستجابة له.
9- وصف الأكثرية بأنهم غافلون
قال الله تعالى:
( وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ )
يونس :92
أي: أكثر الناس غافلون عن آيات الله، وسادرون عنها.
10- وصف الأكثرية بالمجادلة والمخاصمة والمعارضة
قال الله تعالى:
( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا )
الكهف :54
ولقد بينا للناس في هذا القرآن، ووضحنا لهم الأمور، وفصلناها؛ كيلا يضلوا عن الحق، ويخرجوا عن طريق الهدى. ومع هذا البيان وهذا الفرقان، الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصَّره لطريق النجاة .
ثانيا – أوصاف ( الأقلية ) في القرآن
في المقابل نجد أن القلة وقعت مورد المدح الإلهي خاصة في المستوى الإيماني والجهادي لأنها التعبير الصادق عن رفض الانجرار وراء الأكثرية التي توهمت أن كثرتها تجعلها محقة فيما عليه هي من الاعتقاد أو أنها طريق النصر.
ولذلك كانت الأقلية هى الناجية في مسيرة الدعوة عبر التاريخ، من لدن نوح الذي آمَنَ مَعَهُ القَلِيلٌ .
قال الله تعالى:
( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ )
هود : 40
حتى يرث الله الأرض ومن عليها
قال الله تعالى:
( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ )
هود : 116
ولذلك وصفها الله تعالى بكل الصفات الحميدة ، وأن الخيرو الإيمان والصلاح والهداية فيهم ..
قال الله تعالى:
( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)
سبأ : 13
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾
ص 24
أي: إن الصالحين من العباد قليلون، والطالحون منهم كثيرون.
قال الله تعالى:
﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾
البقرة 246
﴿ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾
المائدة 13
أي خيانة منهم بنقض العهد وغيره إلا قليلا منهم
وهم الناجين من إغواء الشَّيْطَانَ
﴿ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلَّا قَلِيلًا ﴾
النساء: 83
﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾
الإسراء 62
لئن أبقيتني حيًا إلى يوم القيامة لأستولينَّ على ذريته بالإغواء والإفساد، إلا المخلصين منهم في الإيمان، وهم قليل.
4 – جزاء الكثرة و القلة
في الآخرة
وكما يُجري القرآن الكريم مقابلة بين الفئتين في الدنيا، يُجري المقابلة بينهما في الآخرة.
فتلك القلة المؤمنة التي استعلت بإيمانها، وقامت بواجبها، واستجابت لنداء الفطرة ودعوة الرسل؛ تجزى بالجنة
قال الله تعالى:
﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُوْلَئِكَ الْـمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ . ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ ﴾
الواقعة: 10-14
في حين أن تلك الكثرة تواجه الجزاء الذي توعّد الله به إبليس وأتباعه وهو جهنم
قال الله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِـجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْـجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾
الأعراف : 179
أحدث التعليقات