1- مقدمة

أخذ العبرة والعظة من القرآن من الأمور المهمَّة التي تبيِّن قيمةَ القرآن الكريم وأهميَّته للفرد والمجتمع والأمَّة؛ حيث إن القرآن الكريم مليء بالمواعظ النَّافعة، والعِبَر الساطعة، التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يتعلَّم من أخطاء غيره، ويدرك السُّنَن التي بها ينتصر النَّاس وينهزِمون، ويعلم الأسباب التي بها يَنجو النَّاس، والأخطاء التي بها يهلكون…، وهكذا.

2- مفهوم العبرة

العبرة هي مايؤدي إلي الاتعاظ بما مضى ، كقصص السابقين التي ينتقل الذهن من معرفتها إلى معرفة عاقبتها وعاقبة أمثالها. و هي أيضا ما يدل عليَ الطريق إلي معرفة الله تعالى و الخضوع و الخشوع له .

3- العبرة

     في

الاستعمال القرآني

أ- ذكرها

وردت مادة (عبر) في القرآن الكريم (9) مرات

ب – صورها

والصيغ التي وردت عليها هي:

1- صيغة الفعل

وردت في موضعين، منها ..

قال الله تعالى:

( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ )

الحشر:٢

2- صيغة الاسم

وردت في سبعة مواضع ، منها ..

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ ﴾

النازعات:٢٦

ج – معناها

ولفظ (عبر) في القرآن الكريم بمشتقاته جاء على أربعة معان رئيسة:

المعنى الأول: بمعنى تُفَسّيِر الرؤيا المنامية

قال الله تعالى:

(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ  )

يوسف:43

فملك مصر يطلب من حاشيته أن يُعبِّروا له ما رأه في منامه، أي: أخبروني بتُفَسّيِر هذه الرؤيا.

المعنى الثاني: بمعنى العبور في الطريق

قال الله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا )

النساء :43

هنا نهي المؤمنين عن قربان المساجد حال الجنابة، لكن يجوز للجُنُب ومن في حكمه – كالحائض والنفساء- عبورها لقضاء حاجة، لا على سبيل المكث والإقامة.

المعنى الثالث: بمعنى الدليل

قال الله تعالى:

 ( وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ )

النحل:66

يقول سبحانه: إن لكم -أيها الناس- في هذه الأنعام التي سخرها لكم لآية ودلالة على قدرة خالقها، وحكمته، ولطفه، ورحمته.

المعنى الرابع: بمعنى الاعتبار والاتعاظ

وهو المعنى الأكثر حضوراً في القرآن، جاء ذلك في أربع آيات، منها ..

قال الله تعالى:

 ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )

يوسف:111

أي: لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم، وكيف أنجينا المؤمنين، وأهلكنا الكافرين عبرة لأولي العقول السليمة يعتبرون بها، وموعظة يتعظون بها.

د – الألفاظ ذات الصلة

– الآية

الآية أصلها العلامة الدالة على شيء، من قول أو فعل، وآيات الله الدلائل التي جعلها دالة على وجوده، أو على صفاته، أو على صدق رسله، ومنه آيات القرآن التي جعلها الله دلالة على مراده للناس.

الآية من الألفاظ التي فيها قدر مشترك مع العبرة ؛ ذلك لأن من معاني العبرة الدلالة، ومن معاني الآية العلامة الدالة على الشيء .

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾

الحجر: ٧٧

لعبرةً للمصدقين.

– الاتعاظ

الاتعاظ هو حالة تنتج عن العبرة، فمن شاهد العبر اتعظ، وتجنب الوقوع في المهالك.

قال الله تعالى:

﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً ﴾

الأعراف 145

– التفكر

هو إحضار ما في العقل من معرفة الأشياء .

قال الله تعالى:

﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴾

الأنعام 50

– الغفلة

هو سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ.

قال الله تعالى:

﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾

الأنعام 50

3- مواطن العبرة

       في

    القرآن الكريم

يلْحَظ أن الأمر بتحصيل العبرة والاعتبار جاء بتوجيه النظر إلى مجالين هما

أولًا: الطريق إلي معرفة

الله تعالى

و يتمثل ذلك في إدراك الحق تعالى إدراكا يقينيا من خلال الاستدلال

بالأتى :

1- بدائع القدرة الإلهية في الكون

عن طريق الاستدلال بآياتة في خلقه التي نصبها دلائل ظاهرة على وجودة يمكن معرفة الصانع الخالق بحيث لا يشوب ذلك شك ولا يعتري ذلك ظن

قال اللَّهُ تعالى:

( يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَار )

النور: 44

ومن دلائل قدرة الله سبحانه وتعالى أنه يقلب الليل والنهار بمجيء أحدهما بعد الآخر، واختلافهما طولا وقِصَرًا، إن في ذلك لَدلالة يعتبر بها كل مَن له بصيرة.

قال اللَّهُ تعالى:

﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ . قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ  قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ . قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ ﴾

المؤمنون : 84-89

قل لهم: لمن هذه الأرض ومَن فيها إن كان لديكم علم؟ . سيعترفون حتمًا بأنها لله، هو خالقها ومالكها، قل لهم: ألا يكون لكم في ذلك تذكُّر بأنه قادر على البعث والنشور؟. قل مَن رب السموات السبع ورب العرش العظيم، الذي هو أعظم المخلوقات وأعلاها؟. سيقولون حتمًا: هو الله، فقل لهم: أفلا تخافون عذابه إذا عبدتم غيره؟ . قل: مَن مالك كل شيء ومَن بيده خزائن كل شيء، ومَن يجير مَنِ استجار به، ولا يقدر أحد أن يُجير ويحمي مَن أراد الله إهلاكه، ولا يدفع الشر الذي قدَّره الله، إن كنتم تعلمون ذلك؟ . سيجيبون: بأن ذلك كلَّه لله، قل لهم: كيف تذهب عقولكم وتُخْدَعون وتُصْرفون عن توحيد الله وطاعته ؟

2- بدائع القدرة الإلهية في المخلوقات

إن الوقوف على بدائع القدرة الإلهية في المخلوقات، ولا سيما الأنعام، محلٌ للعبرة، والاتعاظ، وبها يوقف على دلائل تمام قدرة الخالق سبحانه، وانفراده تعالى بالخلق، وسعة العلم، وهذه هي حقيقة العبرة التي يعبر بها الإنسان من الجهل إلى العلم.

قال الله تعالى:

﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾

المؤمنون: ٢١

وإن لكم- أيها الناس- في الإبل والبقر والغنم لَعبرة تعتبرون بخلقها، نسقيكم مما في بطونها من اللبن، ولكم فيها منافع أخرى كثيرة كالصوف والجلود، ونحوهما، ومن لحومها تأكلون.

قال الله تعالى:

( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ . ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )

النحل 68 – 69

وألْهَمَ ربك النحل بأن اجعلي لك بيوتًا في الجبال، وفي الشجر، وفيما يبني الناس من البيوت والسُّقُف. ثم كُلي مِن كل ثمرة تشتهينها، فاسلكي طرق ربك مذللة لك؛ لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر، وقد جعلها سهلة عليكِ، لا تضلي في العَوْد إليها وإن بَعُدَتْ. يخرج من بطون النحل عسل مختلف الألوان مِن بياض وصفرة وحمرة وغير ذلك، فيه شفاء للناس من الأمراض. إن فيما يصنعه النحل لَدلالة قوية على قدرة خالقها لقوم يتفكرون، فيعتبرون.

قال الله تعالى:

﴿ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾

النحل: ٧٩

ألم ينظر المشركون إلى الطير مذللات للطيران في الهواء بين السماء والأرض بأمر الله؟ ما يمسكهن عن الوقوع إلا هو سبحانه بما خَلَقه لها، وأقدرها عليه. إن في ذلك التذليل والإمساك لَدلالات لقوم يؤمنون بما يرونه من الأدلة على قدرة الله.

قال الله تعالى:

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ﴾

السجدة: ٢٧

أولم ير المكذبون أننا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها، فنخرج به زرعًا مختلفًا ألوانه تأكل منه أنعامهم، وتتغذى به أبدانهم فيعيشون به؟ أفلا يرون هذه النعم بأعينهم، فيعلموا أن الله الذي فعل ذلك قادر على كل شَيْءٍ .

3ـ بدائع القدرة الإلهية في خلق الإنسان

قال الله تعالى:

( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ )

الذاريات 21

وفي خلق أنفسكم دلائل على قدرة الله تعالى، وعبر تدلكم على وحدانية خالقكم، وأنه لا إله لكم يستحق العبادة سواه، أغَفَلتم عنها، فلا تبصرون ذلك، فتعتبرون به؟ ، ألا تبصرون قدرة الله في

أ – مراحل الخلق

قال الله تعالى:

﴿ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾

الحج 5

ب – الألسنة  والألوان

قال الله تعالى:

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾

الروم 22

ج – الطبائع

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ﴾

النحل 36

د – السمع والبصر

قال الله تعالى:

﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾

المؤمنون 78

وما إلى ذلك ؟

ثانيًا : الاتعاظ بمصير الأمم السابقة

يحدثنا الله تعالى عن الأقوام السابقة المكذبة لرسلهم وما حل بهم من عذاب حتى يعتبر الناس بهم ولا ينتهجون منهجهم .

قال الله تعالى:

( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )

يوسف 109

أفلم يمشوا في الأرض، فيعاينوا كيف كان مآل المكذبين السابقين وما حلَّ بهم من الهلاك؟

قال الله تعالى:

﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾

العنكبوت 40

أرسل الله سبحانه وتعالى أنبياءه الكرام إلى الناس ، يهدونهم إلى صراطه المستقيم ، فلما أبَوْا عاقبهم . وينبهنا الله تعالى أن لا نكون مثلهم ، فيعاقبَنا كما عاقبهم .

قال الله تعالى:

( فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ )

الحاقة 8

فهل ترى لهؤلاء القوم مِن نفس باقية دون هلاك؟

1- قصص المرسلين وأقوامهم

عن تعقيب القرآن على قصة يوسف عليه السلام

قال الله تعالى:

﴿ لقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾

يوسف: ١١١

لقد كان في نبأ المرسلين الذي قصصناه عليك وما حلَّ بالمكذبين عظة لأهل العقول السليمة. ما كان هذا القرآن حديثًا مكذوبًا مختلَقًا، ولكن أنزلناه مصدقًا لما سبقه من الكتب السماوية، وبيانًا لكل ما يحتاج إليه العباد من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه وغير ذلك، وإرشادًا من الضلال، ورحمة لأهل الإيمان تهتدي به قلوبهم، فيعملون بما فيه من الأوامر والنواهي.

2-عذاب المعاندين للحق

إن في الوقوف على مصائر المكذبين وعواقب المعاندين للحق لعبرة لمن يعتبر، وعظة لمن يتعظ . عبرة تستحق الوقوف طويلًا أمامها للتأمل، وعظة تلفت الأنظار إليها كثيرًا للتدبر، وهذا ما أمرنا القرآن به.

قال الله تعالى:

﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾

الحشر: ٢

ومن خلال تلك الواقعة تبين كيف فعل الله بهم، فكان موطنًا من مواطن العبرة التي ينبغي على المؤمن أن يتعظ بها، وكان التعقيب من القرآن بصيغة الأمر .

قال الله تعالى:

﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾

الحشر: ٢

3- نصرة المؤمنين على المعاندين

عن أحداث غزوة بدر

قال الله تعالى:

﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾

آل عمران: ١٣

قد كان لكم – أيها اليهود المتكبرون المعاندون- دلالة عظيمة في جماعتين تقابلتا في معركة بَدْر، جماعة تقاتل من أجل دين الله ، وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجماعة أخرى كافرة بالله ، تقاتل من أجل الباطل، ترى المؤمنين في العدد مثليهم رأي العين، وقد جعل الله ذلك سببًا لنصر المسلمين عليهم. والله يؤيِّد بنصره من يشاء من عباده. إن في هذا الذي حدث لَعِظة عظيمة لأصحاب البصائر الذين يهتدون إلى حكم الله وأفعاله.

4- عاقبة المتكبرين والعصاة

ابتليت الأمم على مدار التاريخ بأناس تكبروا على الحق، وتجبروا على الخلق، وأعملوا في أقوامهم صنوف العذاب، وألوان العقاب، غير أن يد القدرة أمهلتهم، علهم يرجعوا عن غيهم، أو يثوبوا إلى رشدهم، فلما لم يرجعوا أو يثوبوا، أعمل الله فيهم سنته، وأجرى عليهم قدره الذى لا يرد عن القوم المجرمين.

– عن قصه  فرعون مع موسى عليه السلام

قال الله تعالى:

﴿ اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ . فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَىٰ أَنْ تَزَكَّىٰ . وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ . فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ . فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ  .ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ . فَحَشَرَ فَنَادَىٰ . فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ . إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ  ﴾

النازعات: 17- 26

4 – المنتفعين بالعبرة

          في

   القرآن الكريم

أهل العبرة هم من ينتفعون بالعبرة ؛ و هم أربعة كما ذكرهم القرآن الكريم

أولًا: المؤمنون

المؤمنون هم المصدقون بكل ما جاء عن الله ، ومن ثم كانوا هم المنتفعين بالعبرة .

قال الله تعالى:

﴿ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾

النحل: ٧٩

ألم ينظر المشركون إلى الطير مذللات للطيران في الهواء بين السماء والأرض بأمر الله؟ ما يمسكهن عن الوقوع إلا هو سبحانه بما خَلَقه لها، وأقدرها عليه. إن في ذلك التذليل والإمساك لَدلالات لقوم يؤمنون بما يرونه من الأدلة على قدرة الله.

قال الله تعالى:

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾

يونس: ١٠١

أما غير المؤمنون فلا ينتفعون بالعبرة. فاستخراج العبرة من آيات الله الكونية يتطلب إيمان صادق ينفذ به صاحبه إلى أعماق الحقائق ليستخرجها

ثانيًا: أولو الأبصار

وأولو الأبصار قوم ألقى الله في قلوبهم نورًا يرى به حقائق الأشياء وبواطنها، وهذا النور بمثابة البصر للنفس يرى به صور الأشياء وظواهرها. والمتتبع لكثير من آي القرآن الكريم يلحظ ربط القرآن الانتفاع بالعبرة بمن لديه نور البصيرة.

قال الله تعالى:

﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾

النور: ٤٤

ومن دلائل قدرة الله سبحانه وتعالى أنه يقلب الليل والنهار بمجيء أحدهما بعد الآخر، واختلافهما طولا وقِصَرًا، إن في ذلك لَدلالة يعتبر بها كل مَن له بصيرة.

قال الله تعالى:

﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾

آل عمران: ١٣

فاتعظوا يا معشر ذوي الأفهام بما أحل الله بهؤلاء اليهود الذين قذف الله في قلوبهم الرعب، وهم في حصونهم من نقمته، واعلموا أن الله ولي من والاه، وناصر رسوله على كل من ناوأه، ومحل من نقمته به نظير الذي أحل ببني النضير. وإنما عنى بالأبصار في هذا الموضع أبصار القلوب، وذلك أن الاعتبار بها يكون دون الإبصار بالعيون . ومن خلال ما سبق تبين أن أصحاب الأبصار هم المنتفعون دون غيرهم بالعبرة.

ثالثًا: أولو الألباب

وأولو الألباب هم ذوو العقول السليمة الذي يعتبرون بعقولهم فيدرون ما فيه مصالح دينهم.

قال الله تعالى:

﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾

يوسف: ١١١

لقد كان في نبأ المرسلين الذي قصصناه عليك وما حلَّ بالمكذبين عظة لأهل العقول السليمة. ما كان هذا القرآن حديثًا مكذوبًا مختلَقًا، ولكن أنزلناه مصدقًا لما سبقه من الكتب السماوية، وبيانًا لكل ما يحتاج إليه العباد من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه وغير ذلك، وإرشادًا من الضلال، ورحمة لأهل الإيمان تهتدي به قلوبهم، فيعملون بما فيه من الأوامر والنواهي.

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾

آل عمران: ١٩٠

إن في خلق السموات والأرض على غير مثال سابق، وفي تعاقُب الليل والنهار، واختلافهما طولا وقِصَرًا لدلائل وبراهين عظيمة على وحدانية الله لأصحاب العقول السليمة.

ولهذه الصفات المجتمعة فيهم جعل الله الانتفاع بالعبرة الواقعة قي قصص الأنبياء منوطة بأولي الألباب.

رابعًا: أهل الخشية

فأهل الخشية هم الذين اتصفوا بالخوف من الله تعالى، لكنه خوفٌ نابعٌ عن علم وفهم وتدبر لما تؤول إليه عواقب الأمور، فهو خوف مع إجلال وهيبة

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾

فاطر: ٢٨

وهذا يفسر لماذا أهل الخشية هم أهل العبرة؛ لأن خوفهم نابع من تأملهم واعتبارهم بمآلات الأمور، وعواقبها. وهذا ما أكده القرآن الكريم حينما عقب على قصة موسى عليه السلام

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ ﴾

النازعات: ٢٦

فأهل الخشية جمعوا بين قلب يتأثر، وعقل يتدبر. فقلوبهم من شأنها أن تخشى الله وتتقيه، وتخاف عقوبته، وتحاذر غضبه. وعقولهم من شأنها أن تدبر في عواقب الأمور ومصايرها، فينظرون في حوادث الماضين، ويقيسون بها أحوال الحاضرين ليتعظ بها . ومن ثم كان أهل الخشية هم أهل العبرة ؛ لأن الذين يخشون الله هم أهل المعرفة الذين يفهمون دلالة الأشياء على لوازمها وخفاياها.

 

 

 

Share This