مفهوم الطبع في القرآن الكريم

1- مفهوم الطبع

طبع الله على قلب الكافر؛ كأنه ختم عليه حتى لا يصل إليه هدى ولا نور، فلا يوفق لخير.

قال الله تعالى:

﴿ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾

المنافقون: ٣

والطبع على القلوب كناية عن بلوغها مستوى من القسوة وجفاف عواطف الخير، فهي لا تتأثر ببيان، ولا تستجيب لموعظة.

2- كلمة الطبع

       في

    القرآن الكريم

وردت كلمة (طبع) في القرآن الكريم (١١) مرة. والصيغ التي وردت، هي:

– الفعل الماضي

ورد ٦ مرات

قال الله تعالى:

﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾

المنافقون:٣

– الفعل المضارع

ورد ٥ مرات

قال الله تعالى:

﴿ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾

غافر:٣٥

وجاء الطبع في القرآن الكريم بمعنى إحكام الإغلاق مع الختم.

3- الكلمات ذات الصلة

   بكلمة الطبع

– الختم

الختم على القلب أي أن لا يفهم شيئًا ولا يخرج منه شيء ، فلا يصل إليها نور الهداية .

قال الله تعالى:

﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾

النحل : 108

فلا تعقل ولا تعي شيئًا

– الران

هو الدنس يغشى القلب ويغطيه من توالي الذنوب وكثرتها .

قال الله تعالى:

﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾

المطففين :١٤

أي صار ذلك كصدأ على جلاء قلوبهم فعمي عليهم معرفة الخير من الشر.

– الأكنة

هي غطاء محكم على القلب يمنع الفهم ويحجب الهداية

قال الله تعالى:

﴿ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ﴾

الأنعام: ٢٥

– الغلف

هوغشاء وغطاء يحجب القلب عن الإيمان. وتتفق دلالة الغلف مع دلالة الأكنة

قال الله تعالى:

﴿ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾

النساء : ١٥٥

– الأقفال

هي كلّ مانع للإنسان من وصول الحق والإيمان إلى قلبة

قال الله تعالى:

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾

محمد: ٢٤

4- أسباب الطبع

     في

القرآن الكريم

إن معرفة أسباب الطبع في ضوء القرآن الكريم مهمة جدًّا للمسلم من أجل الحفاظ على قلبه السليم من يطبع عليه فيموت هذا القلب عن الوعي والسماع والفهم. ومن بين هذه الأسباب الآتي

1- الكُفْر

قال الله تعالى:

 ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾

النساء: 155

فلعنَّاهم بسبب نقضهم للعهود، وكفرهم بآيات الله الدالة على صدق رسله، وقتلهم للأنبياء ظلمًا واعتداءً، وقولهم: قلوبنا عليها أغطية فلا تفقه ما تقول، بل طمس الله عليها بسبب كفرهم، فلا يؤمنون إلا إيمانًا قليلا لا ينفعهم.

قال الله تعالى :

﴿ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ﴾

الأعراف: 101

تلك القرى التي تَقَدَّم ذِكْرُها، وهي قرى قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، نقصُّ عليك -أيها الرسول- من أخبارها، وما كان من أَمْر رسل الله التي أرسلت إليهم، ما يحصل به عبرة للمعتبرين وازدجار للظالمين. ولقد جاءت أهلَ القرى رسلنا بالحجج البينات على صدقهم، فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل؛ بسبب طغيانهم وتكذيبهم بالحق، ومثل خَتْمِ الله على قلوب هؤلاء الكافرين المذكورين يختم الله على قلوب الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم.

2- النفاق

-عن المنافقين

قال الله تعالى:

﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾

التوبة: 87

﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

التوبة: 93

أي: رضي هؤلاء المنافِقون الذين إذا قيل لهم: آمنوا بالله وجاهِدوا مع رسوله، استأذَنَك أهل الغنى منهم في التخلُّف عن الغزو والخروج معك لقِتال أعداء الله من المشركين – أن يكونوا في منازلهم كالنساء اللواتي ليس عليهن فرْض الجهاد- ، فهنَّ قعودٌ في منازلهنَّ وبيوتهنّ وطُبِع على قلوبهم؛ أي: ختَم الله على قلوب هؤلاء المنافقين فهم لا يفقَهون عن الله مواعِظه، فيتَّعِظون بها .

3- الإسراف في المعاصي والذنوب

قال الله تعالى:

 ﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾

الأعراف: 100

أوَلم يتبين للذين سكنوا الأرض من بعد إهلاك أهلها السابقين بسبب معاصيهم، فساروا سيرتهم، أن لو نشاء أصبناهم بسبب ذنوبهم كما فعلنا بأسلافهم، ونختم على قلوبهم، فلا يدخلها الحق، ولا يسمعون موعظة ولا تذكيرًا؟

4- الجهل

قال الله تعالى:

﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

الروم: 59

والجهل نوعان

الأول: عدم معرفة الحق

الثاني: عدم العمل بموجَب الحق ومُقتَضاه

وهذه الآية تشمَل الأمرين كليهما.

وهذا دليل على أن أسوأ أحوال الإنسان عندما يُطبَع على قلبه لكثرةِ جَهْله، فيُصبح لا يَفهم ولا يعقِل شيئًا ، فيَختِم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقةَ ما تأتيهم به يا محمد من عند الله من هذه العِبر والعِظات، والآيات البيِّنات، فلا يَفْقهون عن الله حُجَّة، ولا يفهمون عنه ما يتلو عليهم من آي كتابه؛ فهم لذلك في طُغيانهم يتردَّدون.

5- استحباب الدنيا على الآخرة

قال الله تعالى:

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾

النحل: 107- 108

حيث ارتدُّوا على أدبارهم طَمعًا في شيء من حُطام الدنيا، ورغبة فيه وزهدًا في خير الآخرة، فلما اختاروا الكفرَ على الإيمان، منَعهم الله الهداية، فلم يهدِهم؛ لأن الكفر وصْفهم، فطبع على قلوبهم فلا يدخلها خير، وعلى سمْعهم وعلى أبصارهم فلا يَنفُذ منها ما ينفعهم ويصِل إلى قلوبهم، فشمِلتْهم الغفلة، وأحاط بهم الخِذلان، وحُرِموا رحمة الله التي وسِعت كل شيء؛ وذلك أنها أتتْهم فرَدُّوها، وعُرِضت عليهم فلم يَقبلوها.

6- اتِّباع الهوى

قال الله تعالى:

﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾

محمد: 16

أي: ومن أهل الأهواء مَن يستمع إليك -أيها النبي- بغير فهم؛ تهاونًا منهم واستخفافًا، حتى إذا انصرفوا من مجلسك قالوا لمن حضروا مجلسك من أهل العلم بكتاب الله على سبيل الاستهزاء: ماذا قال محمد الآن؟ أولئك الذين ختم الله على قلوبهم، فلا تفقه الحق ولا تهتدي إليه، واتبعوا أهواءهم في الكفر والضلال.

7- التكبر

قال الله تعالى:

 ﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾

غافر: 35

أي: كما طَبَع الله على قلوب المُسرِفين الذين يُجادِلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، كذلك يَطبع الله على كل قلب متكبِّر على الله أن يوحِّده، ويُصدِّق رُسله، جبار: يعني متعظِّم عن اتِّباع الحقِّ.

8- الارتداد عن دين الله

قال الله تعالى:

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾

المنافقون: 3

أي: جعَل الله على قلوبهم خَتمًا بالكفر عن الإيمان؛ بسبب ارتِدادهم عن دينه، فهم لا يَفقهون صوابًا من خطأ، وحقًّا من باطِل؛ لطبْع الله على قلوبهم

9- تكذيب كتاب الله

ما من إنسان يكذِّب ما جاء عن الله ، إلا وقد نَصَب العداوة لهما وصار من المعتدين

قال الله تعالى:

 ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾

يونس: 74

ثم بعثْنا من بعد نوح رسلاً إلى قومهم، فأتوهم ببينات من الحُجج والأدلَّة على صِدْقهم، وأنهم لله رُسل، وأن ما يَدعونهم إليه حقٌّ، فما كانوا ليُصدِّقوا بما جاءتهم به رُسُلهم بما كذَّب به قوم نوح ومَن قبلهم من الأمم الخالية من قبلهم،  كما طبعْنا على قلوب أولئك فختَمنا عليها، فلم يكونوا يقبَلون من أنبياء الله نصيحتَهم، ولا يَستجيبون لدعائهم إيّاهم إلى ربهم، بما اجترَموا من الذنوب واكتسَبوا من الآثام، كذلك نطبَع على قلوب من اعتدى على ربِّه فتَجاوَز ما أمَره به من توحيده، وخالَف ما دعاهم إليه رُسُلهم من طاعته؛ عقوبة لهم على معصيتهم ربَّهم من هؤلاء الآخرين من بعدهم.

5- طرق تجنب الطبع

من المعلوم أن قلب المرء هو منطلق أعماله، فبصلاحه تصلح الأعمال عند الله وتزكو، وبفساده تفسد ولا ينتفع بها، ومن ثم فإن من فقه المرء ورجاحة عقله أن يحرص على سلامة قلبه ويجنبه دنس الشرك والآثام والذنوب، ولابد للمسلم أن يسلك الطرق التي تجنبه الطبع على القلوب ، ومنها:

أولًا- الاستجابة لدواعي الحق

إن من أسباب شفاء القلوب من مرضها وتجنب الختم والطبع عليها الاستجابة لأوامر الله تعالى وما أنزله الله في كتابه .

قال الله تعالى :

﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾

الحديد : ١٦

فذكر الله تعالى وقراءة القرآن الكريم وتدبره والعمل بمقتضاه، تنجي القلب من قسوته وتجنبه الطبع والران الذي يصيبه.

قال الله تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾

الأنفال : ٢٤

أي: استجيبوا للحق الذي جاءكم من الله عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى أملك لقلوب عباده من أنفسهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك به شيئًا من إيمان أو كفر، أو أن يعي به شيئًا، أو أن يفهم، إلا بإذنه ومشيئته.

ثانيًا- معرفة الله والبصيرة في الدين

أما السبب الثاني من أسباب شفاء القلوب وصلاحها وحياتها وصحتها وتجنب الطبع أو الختم عليها هو أن يستقرّ فيها معرفة الله تعالى وعظمته، ومحبته وخشيته والإنابة إليه.

قال الله تعالى :

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

آل عمران  : ١٩٠ – ١٩١

ومعرفة الله سبحانه وتعالى تكون بالقلب والعقل معًا، فالتفكر في مخلوقات الله يكون بالعقل، ثم ينتقل من دائرة العقل إلى دائرة اليقين بالقلب، وقد قرنت الآيات القرآنية التفكر في خلق السماوات والأرض – وهذا يكون بالعقل – بالتوجه القلبي لذكر الله وعبادته .

ثالثًا – لزوم التقوى والعمل الصالح

التقوى هي الدواء لكل الأمراض التي يصاب بها القلب كالجهل والنفاق والحقد والتكبر وغير ذلك، والتقوى هي العلاج الوحيد الواقي من هذه الأمراض . و التقوى حالة قلبية، تقوم على خشية الله ومراقبته، وتعظيم أمره ونهيه، تبعث صاحبها على فعل ما يحب الله ويرضى، والمسارعة فيه، واجتناب ما يسخطه والبعد عنه، ومحلها القلب .

والمتأمل لآيات القران الكريم يجد أن الله عز وجل ربط عدم السماع بالطبع .

قال الله تعالى :

 ﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ۚ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾

الأعراف  : ١٠٠

كما ربط السماع بالتقوى

قال الله تعالى :

﴿ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾

المائدة  : ١٠٨

إن القلب إذا زاد نوره بالتقوى والعمل الصالح ينيب إلى الله، ويحب الطاعات ويكره المعاصي، وبالإيمان وبتقوى الله وامتثال أوامره في كل حال يزيد نور القلب، وبالكفر والمعاصي يزيد ظلام القلب والطبع عليه ، لأن التقوى هي التي تحبب الوازع الديني في النفس، فلا يحتاج صاحبها بعد ذلك إلى رقيب أو حسيب، فهي كالحاجز للمسلم من كل شر وسوء، والدافعة إلى كل خير ..

رابعًا- الانتفاع بآيات الله في الآفاق والأنفس

ومن الأسباب الأخرى التي تؤدي إلى شفاء القلوب من أمراضها وتمنع الطبع عليها الانتفاع بآيات الله في الآفاق والأنفس، إذ إن التفكر في مخلوقات الله تعالى والتدبر والتأمل في كتاب الكون المفتوح، وتتبع قدرة الله المبدعة وهي تحرّك هذا الكون، وتقلب صفحاته من شأنه أن يجعل القلب دائم الصلة بالله، فيملؤه بالخوف والرجاء والتعظيم والتوكل والاستسلام لله عز وجل

قال الله تعالى :

﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾

فصلت: ٥٣

والكثير من الناس يمّرون على آيات الله تعالى، وهم عنها غافلون، فلا قلب يعقل، ولا عين تبصر، ولا آذان تسمع، ولا فؤاد يهتز، ولا ضمير ينيب. عن هذا الصنف من الناس

قال الله تعالى :

﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا  أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ  أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾

الأعراف: ١٧٩

أما أصحاب القلوب السليمة من الأمراض فهي تحيا مع آيات الله بآذان صاغية، وعيون راعية، وقلوب واعية.

قال الله تعالى :

 ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾

الفرقان: ٧٣

فهو ينظر إليها بعقله، وينتفع بهديها ويستضيء بنورها، فهو ينظر الى آيات الله على أنها ناطقة بوجود الله ووحدانيته، بل هي أبلغ بيان ينطق بصفات الله تعالى وعظيم آلائه.

قال الله تعالى :

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

آل عمران: ١٩٠ – ١٩١

وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على عباده المتفكرين في مخلوقاته ومدحهم؛ لأن تفكّرهم فيها أوصلهم إلى شهادته بأنه تعالى لم يخلقهم باطلًا بل أحدث في قلوبهم مزيدًا من الخشية والإنابة.

خامسًا – الاعتبار بالمصائب والمحن

ومن أسباب شفاء القلوب من مرضها وتجنب الطبع عليها هو الاعتبار بالمصائب والمحن التي تمرّ بها القلوب عند الشدائد، إذ إنّ للقلوب أهمية عظيمة عند الشدائد والمحن ، فالمؤمن الذي يريد أن يتجنب الطبع على قلبه لا بد له أن يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها، وعلى تقديرها ووقوعها يرضى بها؛ لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب، فعند وقوعها لا يستعظمها، بل تكون له عبرة يتعظ بها، بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلًا عن تلك المعارف فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه، بخلاف قلب المؤمن الذي يكون دائمًا منشرحًا بنور معرفة الله تعالى، والقلب إذا كان مملوءًا من هذه المعارف، لم يتّسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا، وسيكون قلبه سليمًا من جميع أمراض القلوب، أما قلب الجاهل فإنه خال من معرفة الله تعالى، فلا جرم يصير مملوءًا من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا.

والقلوب السليمة حينما تسمع القصص وترى أثار الأمم الخالية التي عاقبها الله تعالى لإعراضها، حتمًا ستكون هذه المشاهد عبرة لها وموعظة ، واصفًا هذه القلوب السليمة

قال الله تعالى :

﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ . إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾

ق: 36 – 37

أي: لمن كان له قلبًا سليمًا أدرك الحقائق وتفكر كما ينبغي، فكأنه تعالى قال: إن في ذلك لذكرى وعبرة لمن يصلح أن يقال: له قلب، وحينئذ فمن لا يتذكّر ولا يتعظ لا قلب له أصلًا .

6 – نتائج الطبع على القلوب

للطبع على القلوب نتائج وخيمة ذكرها الله تعالى في كتابه، وهذه العقوبة إنما هي نتيجة لأعمال الإنسان بعد إنذاره وتحذيره، ومن تلك النتائج الأتي:

أولًا – تعطيل وسائل المعرفة

إن من النتائج السلبية والوخيمة التي تحصل بعد الطبع على القلوب هو تعطيل وسائل المعرفة والإدراك من السمع والبصر وغير ذلك، والقرآن الكريم حينما يتحدث عن القلب يصفه بأنه المنظم لكل السلوك البشري والمتحكم بكل تصرفات الإنسان، بل هو المتحكم بكل وسائل الإدراك الأخرى. فالإبصار لا يتم إلا عن طريقه، والسمع لا يكون إلا بعد إذنه، والتعقل والتفقه لا يكتمل إلا بكون القلب حاضرًا.

قال الله تعالى :

﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ  أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾

الأعراف: ١٧٩

فالآية القرآنية الكريمة تشير إلى أن وسائل المعرفة من السمع والبصر وغير ذلك قد تعطلّت؛ لأنهم انشغلوا بما استحوذ عليهم من شهواتهم، فصارت عقولهم لا تفكّر في شيء غيره، وتخطط للحصول على الشهوة، وكذلك العيون لا ترى، إلا ما يستهويها، وكذلك الآذان، وكل منهم يرى، غير مراد الرؤية ويسمع غير مراد السمع.

ثانيًا – عدم الإيمان

ومن نتائج الطبع على القلوب هو عدم الإيمان بالله تعالى والبقاء على الكفر، فالختم، والطبع، والغشاوة، والقفل، هي عقوبات للكفار والمنافقين في الدنيا، وقعت عليهم بسبب سوء أعمالهم وعدم قبولهم الحق، وهذه العقوبات لم يفعلها الله تعالى بعبده من أول وهلة حين أمره بالإيمان، ودعاه إليه، وإنما عاقبه الله بها بعد تكرار الدعوة منه للكفار، وتكرار الإعراض منهم، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع الله على قلوبهم ويختم عليها، فلا تقبل الهدى بعد ذلك.

قال الله تعالى :

﴿ تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ . وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾

الأعراف: ١٠١- 102

فأوضح الله تعالى في هذا النص القرآني أن من سنن كونه الطبع على قلوب الكافرين، فهو نتيجة تحصل بسبب ما يكسب الكافرون بكفرهم وجحودهم من ذنوب، وبسبب طول الأمل عليهم وهم مكذبون.

ثالثًا – عدم العلم والفقه

لا شك أن الجهل وعدم العلم شر محض على الإنسان، وآثاره وخيمة، ونتائجه خطيرة، فما عبد غير الله تعالى إلا بسبب الجهل وعدم العلم، ذلك أن الجهل يعني: خلو النفس من العلم، فعندما ينتشر الجهل ويغيب الإيمان عن القلوب يصبح الجهل هو المتحكم بالنفس والمتسيّد عليها.

قال الله تعالى :

﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ . كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

الروم: ٥٨ – ٥٩

هذه الآية أكدت على أن الله تعالى ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل حكيم، من شأنه أن يهدي القلوب إلى الحق، ويرشد النفوس إلى ما يسعدها، فتارة يضرب المثل بآيات الأفاق والأنفس، وتارة بالوعد والوعيد، وتارة بالأمر والنهي، وتارة بالبشرى والإنذار، وتارة بالاستدلال، ورغم هذا البيان، فإن فريقًا من الجاهلين والغافلين يجحدون بآيات الله تعالى، ويقولون على سيبل التطاول والتبجح : ما أنتم معشر المؤمنين إلا متّبعون للباطل بما يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا دليل على أن أسوأ أحوال الإنسان عندما يطبع على قلبه لكثرة جهله، فيصبح لا يفهم ولا يعقل شيئًا، فيختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به يا محمد من عند الله من هذه العبر والعظات والآيات البينات فلا يفقهون عن الله حجة، ولا يفهمون عنه ما يتلو عليهم من آي كتابه؛ فهم لذلك في طغيانهم يترددون.

رابعًا – الاستمرار والإصرار على إتباع الهوى

ومن نتائج الطبع على القلوب هو الاستمرار والإصرار على إتباع الهوى، وهو محبة الإنسان الشيء وغلبته على قلبه، فهو دافع داخل الإنسان يحركه الى ما يحب ويشتهي. ، وما يدعو إليه من معاصي الله عز وجل.

قال الله تعالى :

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ﴾

النازعات:٤٠ -41

لذلك فإن اتباع الهوى يطمس نور العقل، ويعمي بصيرة القلب، ويصد عن اتباع الحق، ويضل عن الطريق المستقيم، فلا تحصل بصيرة العبرة معه ألبته، والعبد إذا اتبع هواه فسد رأيه ونظره، فأرته نفسه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، فالتبس عليه الحق بالباطل، فأنى له الانتفاع بالتذكر، أو بالتفكر، أو بالعظة، فكلما ضعف نور الإيمان في القلب كلما كانت الغلبة للهوى. وأخبر الله سبحانه وتعالى أن باتباع الهوى يطبع الله على قلوب العباد .

قال الله تعالى :

﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾

محمد: ١٦

فقد ذمّ الخالق سبحانه في هذه الآية الذين اتبعوا أهوائهم؛ لأنهم لا يستفيدون مما يسمعون، ولا يتأثرون بموعظة، ولا يعون أو يعقلون ما يرشدون به.

 

Share This