– تقديم

كثيراً ما تتردد عبارة (التمكين في الأرض) على ألسنة كثير من الناس من المؤمنين الصادقين، أو من هؤلاء الذين يتاجرون بالدين ويتمسحون به ويتخذونه وسيلة لتحقيق مكاسب دنيوية .فماذا تعني كلمة (تمكين)؟ ومن هم الذين يمكنهم الله في أرضه ويسخرهم لعمارة الأرض وتحقيق مصالح الناس؟ وهل يمكن الله هؤلاء الذين يتاجرون بدينه ويرفعون شعارات دينية كاذبة؟

1- مفهوم التمكين

التمكين هو زيادة القدرة الروحية والسياسية و الاجتماعية والاقتصادية للأفراد والمجتمعات.

قال الله تعالى:

 ( أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ )

الأنعام : 6

( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون )

الأحقاف : 26

2- كلمة التمكين

      في

  القرآن الكريم

وردت كلمة (التمكين) وصيغها في القرآن الكريم(١٨) مرة، والصيغ التي وردت هي:

– الفعل الماضي

ورد ١٠ مرات

قال الله تعالى:

﴿ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ﴾

يوسف:٢١

– الفعل المضارع

ورد ٤ مرات

قال الله تعالى:

﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا ﴾

القصص:٥٧

– صيغة المبالغة

ورد ٤ مرات

قال الله تعالى:

﴿ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾

التكوير:٢٠

وجاءت كلمة التمكين في القرآن الكريم بمعني القدرة على الشيء وإطاقته ، مع زوال المانع ، أو من الرسوخ والاستقرار في المكان  .

قال الله تعالى:

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا . إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ﴾

الكهف:٨3 – 84

يعني: أعطيناه ملكًا عظيمًا متمكنًا، فيه له من جميع ما يؤتى الملوك، من التمكين والجنود، وآلات الحرب والحصارات؛ ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد .

3- التمكين مشيئة إلهية

و التمكين يأتي في القرآن الكريم بصيغة الفعل المسند إلى الله عز وجل، فهو وحده من يمكِّن للإنسانِ ما يشاء.

– عن ذي القرنين

قال الله تعالى:

 ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا . إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا )

الكهف : 83 – 84

ويسألك -أيها الرسول- هؤلاء المشركون من قومك عن خبر ذي القرنين الملك الصالح، قل لهم: سأقصُّ عليكم منه ذِكْرًا تتذكرونه، وتعتبرون به..إنا مكَّنَّا له في الأرض، وآتيناه من كل شيء أسبابًا وطرقًا، يتوصل بها إلى ما يريد مِن فَتْح المدائن وقهر الأعداء وغير ذلك.

قال الله تعالى:

( أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الاَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الاَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً اخَرِينَ )

الانعام : 6

ألم يعلم هؤلاء الذين يجحدون وحدانية الله تعالى واستحقاقه وحده العبادة، وما حلَّ بالأمم المكذبة قبلهم من هلاك وتدمير، وقد مكنَّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم أيها الكافرون، وأنعمنا عليهم بإنزال الأمطار وجريان الأنهار من تحت مساكنهم؛ استدراجًا وإملاءً لهم، فكفروا بنعم الله وكذبوا الرسل، فأهلكناهم بسبب ذنونهم، وأنشأنا من بعدهم أممًا أخرى خلفوهم في عمارة الأرض؟

4- أقسام التمكين

التمكين للإنسان يتم عبر قسمين

الأول: حسي مادي

يتم فيه تمكين الإنسان من التصرف في الأرض، وإقداره على جعلها موطنا له ومستقرا لمعاشه، ولذلك جاء ذكر “المعايش” مع التمكين في الأرض .

قال الله تعالى:

( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ )

الأعراف : 8

أي ما يضمن الاستمرار في الحياة من طعام وشراب ولباس ونحوه. ويدخل في هذا المستوى تمكين المال والقوة والأولاد .

الثاني : معنوي

يتم فيه تمكين الدين والأمن للإنسان

قال الله تعالى:

( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْاَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذِي اِرْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً  )

النور :52

وهذا مستوى من التمكين يحوز بموجبه الإنسان على أهم الأسس الداعمة للحياة الكريمة، وهي الدين بكل القيم الروحية والخلقية والاجتماعية التي ينطوي عليها، والأمن الذي يضمن له ممارسة سائر حقوقه الطبيعية.

وبوجود هذين المستويين من التمكين، يرتبط المادي بالروحي في حياة الإنسان، ولا يصبح عمار الأرض وصلاحها مقتصرا على ضمان الرفاه المادي وتحصيل مستوى العيش الرغيد، بل أيضا، ضمان الأمن النفسي والروحي .

5- التمكين سنة تسري على

     المؤمنين والكافرين

أنّ الله تعالى أعطى – ويعطي – التمكين لأمم مسلمة ولأمم كافرة،

1- تمكين الله تعالى للأمم المسلمة

فمن أمثلة التمكين الذي أعطاه الله تعالى للأمم المسلمة

أ- تمكين الله تعالى ليوسف

قال الله تعالى:

 ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )

يوسف 21

 ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )

يوسف 56

ب – تمكين الله تعالى لسليمان

وأخبر تعالى أنّه آتى سليمان من كل شيء، وهذا غاية التمكين

قال الله تعالى:

 ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ )

النمل 16

ج – تمكين الله تعالى لذي القرنين

وقال عن ذي القرنين

قال الله تعالى:

  ( إنّا مكنّا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً )

الكهف 84

د – تمكين الله تعالى لهذه الأمة

وعن هذه الأمة

قال الله تعالى:

( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )

الأنفال 26

2- تمكين الله تعالى للأمم الكافرة

أمّا ما اعطاه الله تعالى من التمكين للأمم الكافرة فكثير منة

قال الله تعالى:

( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ )

الأنعام  6

 ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ )

الأحقاف 26

ما يدل على أن التمكين لا يدل على إيمان وتقوى وتميز الممكن له.

6- السنن التي يمضي عليها التمكين

القرآن الكريم يبين السنن التي يمضي عليها التمكين، فيتنوع بتنوعها، فهناك

1- تمكين يمضي على

سنة الإمهال والإملاء

قال الله تعالى:

 ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )

الأنعام 44- 45

فهؤلاء فتح الله عليهم أبواب كل شيء من أدوات التمكين الاقتصادي والعسكري والمعماري وغير ذلك ليمهلهم ويملي لهم.

قال الله تعالى:

( ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ  )

الأعراف 95

ثم بدَّلنا الحالة الطيبة الأولى مكان الحالة السيئة، فأصبحوا في عافية في أبدانهم، وسَعَة ورخاء في أموالهم؛ إمهالا لهم، ولعلهم يشكرون، فلم يُفِد معهم كل ذلك، ولم يعتبروا ولم ينتهوا عمَّا هم فيه، وقالوا: هذه عادة الدهر في أهله، يوم خير ويوم شر، وهو ما جرى لآبائنا من قبل، فأخذناهم بالعذاب فجأة وهم آمنون، لا يخطر لهم الهلاك على بال.

2- تمكين ابتلاء واختبار

وهناك تمكين آخر يمضي على سنة الاختبار والامتحان والابتلاء والفتنة ، ومن ذلك ما أعطاه الله لبني إسرائيل

قال الله تعالى:

 ( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )

الأعراف 168

وفرَّقنا بني إسرائيل في الأرض جماعات، منهم القائمون بحقوق الله وحقوق عباده، ومنهم المقصِّرون الظالمون لأنفسهم، واختبرنا هؤلاء بالرخاء في العيش والسَّعَة في الرزق، واختبرناهم أيضًا بالشدة في العيش والمصائب والرزايا؛ رجاء أن يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا من معاصيه.

3- تمكين مكافأة

وهناك تمكين يمضي على سنة الجزاء والمكافأة ومقابلة الإحسان بالإحسان . وهذا هو عين ما أعطاه الله تعالى ليوسف عليه السلام

قال الله تعالى:

 ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )

يوسف 56

وكما أنعم الله على يوسف بالخلاص من السجن مكَّن له في أرض “مصر” ينزل منها أي منزل شاءه. يصيب الله برحمته من يشاء من عباده المتقين، ولا يضيع أجر مَن أحسن شيئًا مِن العمل الصالح. فأعطى الله التمكين ليوسف بعد أن اجتاز الابتلاء جزاء لإحسانه .

7- شروط أ التمكين للأمم

شروط التمكين التي ذكرها القرآن يمكن أن نحصرها في الآتي

1- الأخلاق

فالله سبحانه وتعالى يُمكِّن لأوليائه الصالحين, إذا أصبحت الأخلاق الحسنة تعم كل معاملاتهم في شتى مناحي الحياة , مكن الله سبحانه وتعالى لهم في الأرض..

قال الله تعالى:

( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )

النور: 55

( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ )

الانبياء : 105

2 – العلم

العلم سبب أصيل من أسباب التمكين ، ووصف به يوسف الذي مكن في الأرض أيما تمكين ..

قال الله تعالى:

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ )

يوسف: 22

و على لسان سليمان عليه السلام

قال الله تعالى:

 ( وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ )

النمل: 42

  • في شأن طالوت

قال الله تعالى:

 ( إنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ  وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ  وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )

البقرة : 247

ذلك أن العلم أساس من أسس التمكين وركيزة من ركائزه, التي بدونها لا يقوم, وبغيرها لا ينهض ولا يستقيم , ولأمر ما كانت أول كلمة نزلت من القرآن: (اقرأ) ؛ إن القراءة أساس العلم والعلم أساس العمل , وعمل بلا علم إنما هو ضرب من التخبط, وعلم بلا عمل إنما هو لون من ألوان الترف الفكري والسرف الثقافي الذي لا يقيم حضارة, ولا يتيح لأمة من الأمم أن تمسك بزمام الريادة والسيادة.

3- الأخذ بالأسباب

القرآن الكريم حافل بالآيات التي توجِبُ الأخذَ بالأسباب في شتى مناحي الحياة، والعمل على استقصاء تلك الأسباب للوصول إلى المراد  .

قال الله تعالى:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ  ﴾

الأنفال : 60

إنّ أمرَ التمكين يحتاجُ إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتمَّ القرآن الكريم اهتماماً كبيراً بإرشاد الأمة للأخذ بأسباب القوة، وأوجبَ الله تعالى على الأمةِ الأخذَ بأسبابها .

4- العدل

يمثل العدل أحد أهم الركائز التي يستند إليها للحصول على التمكين مع ضمان بقائه واستمراره، وإن من أهم الدلالات على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر بالعدل وجعله من جوامع الخير.

قال الله تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ﴾

النحل: ٩٠

كما أنه سبحانه وتعالى نهى عن الجور

قال الله تعالى :

﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ﴾

المائدة : ٨

ومما يعلل كون صفة العدل أحد أهم سبل الوصول إلى حالة التمكين أنه لا أحد من الخلق يقبل وقوع الهضم والحيف عليه، ومن ثم فإن النفوس تكره كل ظالم وبالذات إذا كان في موقع النفوذ والسلطان؛ لأن ظلمه يكون أشد وفرص معاقبته تكون محدودة إن لم تكن معدومة، والعكس صحيح، وهذا يعني أنه لابد لمن أراد التمكين في الأرض أن يتصف بالعدل؛ حتى ينال محبة الناس وثقتهم، فيحصل بذلك على ما أراد.

5- التعاون

يمثل التعاون أحد الركائز التي يستند إليها للحصول على التمكين مع ضمان بقائه واستمراره . العباد مأمورون من الله سبحانه وتعالى بأن يكونوا متعاونين متآزرين في الحق .

قال الله تعالى :

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾

المائدة: ٢

وبعدم التنازع و الأ ختلاف فيما بينكم

قال الله تعالى :

﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾

الأنفال 46

ولا تختلفوا فتتفرق كلمتكم وتختلف قلوبكم، فتضعفوا وتذهب قوتكم ونصركم،

8- أهداف التمكين

تحدث القرآن الكريم عن أهداف التمكين وسوف نبينها فيما يأتي:

1- إقامة شعائر الدين

يجب على المؤمنين بمجرد أن يمكن الله سبحانه وتعالى لهم في الأرض أن يسعوا بكل جهد إلى تحقيق مهام الاستخلاف التي أسندها الله سبحانه وتعالى إليهم، وأولى هذه المهام هي مهمة العبادة لله سبحانه وتعالى وحده، وإقامة شعائر دينه.

قال الله تعالى:

﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾

الحج: ٤١

2- عمارة الأرض

الإسلام هو دين التعمير والبناء والإصلاح في الأرض، وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يعمروا في الأرض .

قال الله تعالى:

﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾

هود 61

هو الذي بدأ خَلْقكم من الأرض بخلق أبيكم آدم منها، وجعلكم عُمَّارا لها .

9- أسباب زوال التمكين

وضح القرآن الكريم أسباب زوال التمكين، وسوف نتناولها بالبيان فيما يلي:

1- الكفر

الكفر بأقسامه وأنواعه يؤدي إلى زوال التمكين

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ . أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ  إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ . وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ . وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ . وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ . فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ . فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ . وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ . كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ . كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ . فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾

الدخان: ١٧-29

فهذه الآيات تتحدث عن فرعون وملئه، وعن عاقبة إفسادهم في الأرض، حيث أغرقهم في البحر بعد أن كانوا أهل سيادة في الأرض.

2- الظلم

الظلم بأنواعه سبب من أسباب زوال التمكين .

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ . إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ . يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ  وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ . وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ . ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ . وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴾

هود: ٩٦-١٠١

فهذه الآيات تتحدث عن إهلاك الله سبحانه وتعالى لقوم موسى عليه السلام بسبب ظلمهم أنفسهم بالكفر والمعاصي .

3- كفران النعمة

مما لا شك فيه أن إنكار ونسيان النعم التي من الله سبحانه وتعالى بها على عباده من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى زوال تلك النعم، ولما كانت نعمة التمكين من أعظم ما يمن به الله سبحانه وتعالى على عباده كان إهمالها ونكرانها أحد أعظم الأسباب التي تؤدي إلى زوال تلك النعمة والحرمان منها.

قال الله تعالى:

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾

النحل: ١١٢

وهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لمن يكون في رغد من العيش وسعة، ثم يكفر بما أنعم الله سبحانه وتعالى به عليه لتكون عاقبته الحرمان من تلك النعم.

4- ارتكاب الذنوب

وعد الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين الصالحين المداومين على فعل الطاعات بالغلبة والتمكين في الأرض

قال الله تعالى:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾

النور: ٥٥

ويفهم من هذا الوعد الإلهي بالمخالفة أن الكفر بالله وإتيان الذنوب يؤديان إلى زوال التمكين.

قال الله تعالى:

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا . فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ﴾

الطلاق: ٨ – ٩

والعتو عن أمر الله سبحانه وتعالى إنما يكون بمعصيته وارتكاب الذنوب. لذلك فإنه من الواجب على العباد أن يحذروا من الوقوع في الذنوب؛ لئلا تزول عنهم نعمة التمكين.

10- مقومات استمراريَّة

   التمكين في الأمة

ذَكَر الله – تعالى – في كتابه مقومات وجود الاستخلاف والتمكين في الأمة المسلمة، وعوامل بقائه واستمراريته فيها

قال الله تعالى:

 ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ )

الحج 41

اي إقامة الصلة الدائمة بينهم وبين الله تبارك وتعالى وبذلك تنتفي الفحشاء ويختفي المنكر عن الإنسان .. ومن ركائز التمكين أيضا إيتاء الزكاة وهي تطهير النفس من آفاتها ..

Share This