1- مفهوم التدبر

التدبر هو تفهّم معاني ألفاظ القرآن والتفكر فيما تدل عليه آياته، وانتفاع القلب بذلك بخشوعه عند مواعظه وخضوعه لأوامره، وأخذ العبرة منه.

2- كلمة التدبر

     في

القرآن الكريم

وردت كلمة التدبر وصيغها في القرآن الكريم (٤) مرات ، والصيغ التي وردت هي:

– الفعل المضارع

ورد ٤ مرات

﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾

ص:٢٩

وجاء التدبر في القرآن الكريم بمعني التفكر والنظر في أدبار الأمور للاتعاظ والاعتبار..

3- كلمات ذات الصلة

   بكلمة التدبر

– التفسير

علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية .

– التأويل

هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله، بما لا يخالف نصًّا من كتاب الله سبحانه و تعالى.

– الاستنباط

هو استخراج ما خفي من النص بطريق صحيح.

– التفكّر

هو إحضار ما في القلب من معرفة الأشياء ، لإدراك المطلوب

4- الأمر بالتدبر

قال الله تعالى:

( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)

النساء  82

 ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )

محمد 24

( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ )

المؤمنون68

 ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ )

ص  29

يآمرً الله تعالى عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، فهذا أمر صريح بالتدبر.

قال الله تعالى:

( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ )

البقرة78

أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر

قال الله تعالى:

( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا )

الفرقان  30

وترك تدبره وتفهمه من هجرانه .

5- مقاصد التدبر

        في

  القرآن الكريم

إنّ التدبّر في القرآن الكريم هو الغاية الأسمى من نزوله .

قال الله تعالى:

﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾

ص: ٢٩

ولمعرفة مقاصد وأهداف التدبّر نعرضها فيما يلي:

أولًا: زيادة الإيمان

إنّ أهم مقصد من مقاصد التدبر في القرآن الكريم، هو أنه عندما يتلى القرآن الكريم بتدبّر، يشعر القارئ بزيادة الإيمان في قلبه، بل إن مقياس التدبر يعرف بزيادة الإيمان، فإذا كان المسلم يشعر بزيادة في إيمانه فإنه يتدبّر القرآن .

قال الله تعالى:

﴿   إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾

الأنفال: ٢

ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره، فعند ذلك يزيد إيمانهم؛ لأن التدبر من أعمال القلوب؛ ولأنه لابد أن يبيّن لهم معنًى كانوا يجهلونه، أو يتذكرون ما كانوا نسوه، أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير، واشتياقًا إلى كرامة ربهم، أو وجلًا من العقوبات، وازدجارًا عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان .

وكان المؤمنون إذا أنزلت سورة من القرآن ازدادوا إيمانًا وتصديقًا وإقرارًا.

قال الله تعالى:

﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾

التوبة: ١٢٤

ومن علامات زيادة الإيمان الناتجة عن تدبر القرآن:

– البكاء من خشية الله

قال الله تعالى:

﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾

المائدة: ٨٣

– القشعريرة خوفًا من الله تعالى، ثم غلبة الرجاء والسكينة

قال الله تعالى:

﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾

الزمر: ٢٣

– السجود تعظيمًا لله عز وجل وزيادة الخشوع

قال الله تعالى:

﴿ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا. وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا  ﴾

الإسراء: ١٠٧ -١٠٩

ثانيًا: العمل الصالح

إنّ المقصد الثاني من مقاصد تدبر القرآن، هو العمل الصالح، والامتثال لأمر الله ونهيه، وهو ثمرة الإيمان وعاقبة التدبر؛ لذلك حتى يتحقق التدبر في القرآن، يجب أن يكون بنية العمل والامتثال بما فيه، ولو أننا تلونا القرآن، ولم نعمل بما فيه لا يمكن أن نكون قد تدبرناه. ولو تدبرناه لكان القرآن واقعًا عمليًّا في حياتنا وسلوكنا. ولقد حثّنا القرآن على العمل والامتثال لما جاء فيه .

قال الله تعالى:

﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾

البقرة: ١٢١

أي: يتبعونه حق اتباعه ، بالتدبّر في معانيه والعمل بما فيه ، فيحلّون حلاله، ويحرّمون حرامه . ومن هنا فإن الذين لا يتدبّرون القرآن، سوف يفوتهم تطبيق الكثير من مبادئ الدين في حياتهم العملية، وهم لا يشعرون.

ثالثًا: الهداية إلى الحق والصواب

قد علم أن المقصد الأول من مقاصد التدبر هو: زيادة الإيمان، وأن المقصد الثاني هو: العمل الصالح، وهو ثمرة ونتيجة الإيمان، وأنهما متلازمان، فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان. فالأول مبتور لم يبلغ تمامه، والثاني مقطوع لا ركيزة له، وبهما معا يتحقق المقصد الثالث من مقاصد التدبر وهو: الهداية إلى الحق والصواب.

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾

الإسراء: ٩

فالإيمان والعمل هما القاعدتان الأصيلتان التي تبنى عليهما الهداية. وإنّه مما يؤكّد على أنّ الهداية مترتبة على العمل والاتّباع .

قال الله تعالى:

﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

المائدة:  15- 16

﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ ﴾

طه: ١٢٣

أي: أن الإنسان إذا اتبع الهدى الوارد من الله سبحانه وتعالى على لسان رسله سلم من أن يعتريه شيء من ضلال في الدنيا، وهو أيضًا لا يشقى في الآخرة؛ لأنه إذا سلم من الضلال في الدنيا سلم من الشقاء في الآخرة.

رابعًا: تحصيل العلم النافع

إنّ المقصد الرابع من مقاصد تدبر القرآن الكريم هو: تحصيل العلم النافع، وهو أمر مهم لتحقيق المقاصد الثلاثة السابقة؛ ليكون الإيمان والعمل والهداية عن علم واتباع لما جاء به الشرع.

أن المنبع الأصيل والمصدر العظيم لطالب العلم هو القرآن الكريم، فهو زاخر بالعلوم النافعة للإنسان في حياته الدنيا وآخرته .

قال الله تعالى:

﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ﴾

النحل: ٨٩

﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾

الأنعام: ٣٨

أي: ما تركنا في القرآن من شيء من أمر الدين؛ إما تفصيلًا أو إجمالًا. ومن جهة أخرى، فيخشى أن تكون حال من يقرأ ويحفظ دون تدبر كحال من سبقنا من الأمم التي عاب الله عليها مثل ذلك .

قال الله تعالى:

﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾

البقرة: ٧٨

أي: لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظونها ويدرسونها لا يفقهون منها معنًى، كما هو عادة الأمم الضالة؛ إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم .

6 – الأسباب المعينة على التدبّر

تركّز هذه النقاط على العوامل التي تجعل أداء عبادة التدبر تكون على أكمل وجه، وأحسن حال، وهذه الأسباب هي كالآتي:

١ – الاستعاذة

إن أكثر ما يعمل الشيطان على إفساده، هو التدبر في قراءة القرآن؛ لذلك أمرنا الله سبحانه وتعالى بالاستعاذة عند قراءة القرآن .

قال الله تعالى:

﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾

النحل: ٩٨ – ١٠٠

وأما صيغتها ، هي

أعوذ باللّه العظيم من الشّيطان الرّجيم.

٢ – الدعاء

إن العامل الرئيس لتدبر القرآن ، هو استشعار الحاجة إليه والرغبة فيه، وهذا الشعور لابد أن يترجم في هيئة دعاء وتضرع إلى الله، بأن ييسّر لنا فهم كتابه، وحسن تدبره، والعمل بما فيه .

قال الله تعالى:

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾

الفاتحة: ٥-6

٣ – القراءة مع حضور القلب

إن من الأسباب المهمة التي تعين العبد على تدبر القرآن الكريم: حضور القلب في أثناء قراءته ، ويجب على العبد إذا أراد الانتفاع بالقرآن أن يجمع قلبه عند تلاوته وسماعه، وأن يحضر حضور من يخاطب به، فإنه خطاب من الله للعبد .

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾

ق: ٣٧

إن في ذلك لعبرة لمن كان له قلب يعقل به، أو أصغى السمع، وهو حاضر بقلبه، غير غافل ولا ساهٍ.

وأهم شيء في تدبر القرآن، هو تذكّر آيات القرآن الكريم، وكونها حاضرة في القلب في كل آن، وخاصة في المواقف الصعبة في الحياة، مواقف الشدة والذهول، المواقف التي يفتتن فيها المرء ويمتحن ويختبر، فمن كان يقوم به آناء النهار فتجد إجابته حاضرة وسريعة وقوية، تجده وقّافًا عند كتاب الله تعالى، تجده آمنًا مطمئنًّا في جميع المواقف، تجده قويًّا متماسكًا حتى في أصعب الظروف.

٤ – التفكر في معاني الآيات والتفاعل معها

وإن مما يعين على تدبر القرآن: التفكر في معاني الآيات والتفاعل معها، والقرآن يحثنا علي التأمل والتفكر، وإعمال العقل، والنظر في هدايات الآيات؛ لننتفع بها في الدنيا والآخرة .

قال الله تعالى:

﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾

النحل: ٤٤

وأن يستحضر أنّه مخاطب بما يقرأ، فيتأمّل ذكر التّوحيد والإيمان، والأمر والنّهي، والوعد والوعيد، والقصص والأمثال، ويلاحظ ما يلزمه من ذلك من التّصديق والامتثال والاعتبار، ويراعي الجواب في موضع السّؤال، ولا يفوّت ما تقتضيه الآية من تسبيح أو تحميد أو تكبير أو استغفار أو دعاء، ويغتنم ذكر الجنّة بالرّغبة إلى ربّه وسؤاله الفوز بدخولها، وذكر النّار بالرّهبة وسؤاله ربّه النّجاة منها.

وقد أثنى الله على من يقرأ القرآن، ويفقه معانيه، ويعمل بما جاء فيه،

قال الله تعالى:

﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾

الزمر: ١٨

إن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من السرعة مع كثرتها؛ لأن المقصود من القرآن فهمه والتفقّه فيه والعمل به، وتلاوته وحفظه وسيلة إلى التدبر فيه.

٥ – اختيار الوقت المناسب

إنّ من العوامل المساعدة على التدبر في القرآن أيضًا: قراءته وسماعه في موضع سكون، وتجتنب القراءة في مواضع اللّغط وارتفاع الأصوات؛ لما يقع بها من التّشويش عليه، فلا يتحقّق له المقصود من التّلاوة على وجهه

ومما يعين على تدبر القرآن: القيام به في الليل، وهو من أهم مفاتح تدبر القرآن، وأعظمها شأنًا .

قال الله تعالى:

﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾

الإسراء: ٧٩

ويحثنا الله عز وجل على إطالة القراءة في الصلاة، وخاصة صلاة الفجر

قال الله تعالى:

﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾

الإسراء: ٧٨

٦ – الإنصات عند سماع القراءة

وقد أمر الله تعالى من حضر التّلاوة بالإنصات؛ لئلّا يشغل عن القرآن بغيره وهو يسمعه، ولئلّا يرد عليه من التّشويش ما يفوّت عليه التّدبّر،

قال الله تعالى:

﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾

الأعراف: ٢٠٤

وإن الناس يخسرون خسارة كبيرة عندما ينصرفون عن القرآن، وإن الآية الواحدة لتصنع أحيانًا في النفس -حين تستمع لها وتنصت- أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة والإدراك، والطمأنينة والراحة،

٧-  الخشوع عند سماع القرآن

ومن الأسباب المعينة على التدبر أيضًا الاجتهاد في الخشوع عند سماع القرآن، ولا بأس بالبكاء، بل هو حسن لمن قدر عليه من غير تكلّف، وأنه تقشعرّ، وتضطرب جلود الذين يخافون ربهم من سماعه؛ تأثرًا بما فيه من ترهيب ووعيد، ثم تلين جلودهم وقلوبهم؛ استبشارًا بما فيه من وعد وترغيب، وذلك كله من تأثير الخشوع .

قال الله تعالى:

﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ  وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾

الزّمر: ٢٣

﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾

الحديد: ١٦

﴿ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا. وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا  ﴾

الإسراء: ١٠٧- ١٠٩

و في وصف الذين أنعم عليهم

قال الله تعالى:

﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾

مريم: ٥٨

فهذه الآيات البيّنات واضحة الدّلالة على الأمر بالخشوع، وبيان ما يكون من حال الصّفوة من عباد الله من النّبيّين، وأولي العلم عند سماع الآيات تتلى عليهم من الخضوع والبكاء من خشية الله.- الترسّل والتمهّل عند القراءة

8- التمهل أثناء القراءة

ومن الأسباب المعينة على التدبر أيضًا الترسل والتمهل أثناء القراءة،

قال الله تعالى:

﴿ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾

المزمل: ٤

والترتيل يعني: الترسل والتمهل، ومن ذلك مراعاة المقاطع والمبادئ وتمام المعنى، بحيث يكون القارئ متفكرًا فيما يقرأ، فمن أسرع القراءة، فقد اقتصر على مقصد واحد من مقاصد قراءة القرآن، وهو: ثواب القراءة، ومن رتّل وتأمل، فقد حقّق المقاصد كلها وكمل انتفاعه بالقرآن.

-9 المدارسة الجماعية

ومن المعينات على التدبر كذلك: حلقات المدارسة الجماعية

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾

فاطر: ٢٩

ولا شكّ أن من تمام التلاوة والذكر المدارسة الجماعية لهذا القرآن الكريم بتدبر الآيات، والعيش معها،

7- صوارف التدبّر

تركّز هذه النقاط على الأمور التي تكون مانعًا لتدبّر الإنسان في خلق الله تعالى، أو في القرآن الكريم، ومن ثمّ يصل ذلك الإنسان إلى مراحل متقدمة من الجحود والإنكار لكافة جوانب الدين؛ لأنه لا يمارس هذه العبادة، التي هي من أعظم معينات الطاعة، وصوارف التدبر كثيرة، منها:

أولًا: الطبع والختم على القلوب

قال الله تعالى:

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾

محمد: ٢٤

أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ القرآن ويتفكرون في حججه؟ بل هذه القلوب مغلَقة لا يصل إليها شيء من هذا القرآن، فلا تتدبر مواعظ الله وعبره.

ثانيًا: اتباع الهوى

قال الله تعالى:

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾

الجاثية: ٢٣

أفرأيت -أيها الرسول- من اتخذ هواه إلهًا له، فلا يهوى شيئًا إلا فَعَله، وأضلَّه الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه، فلا يسمع مواعظ الله، ولا يعتبر بها، وطبع على قلبه، فلا يعقل به شيئًا، وجعل على بصره غطاء، فلا يبصر به حجج الله؟ فمن يوفقه لإصابة الحق والرشد بعد إضلال الله إياه؟ أفلا تذكرون -أيها الناس- فتعلموا أنَّ مَن فَعَل الله به ذلك فلن يهتدي أبدًا، ولن يجد لنفسه وليًا مرشدًا؟ والآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى هو الباعث للمؤمنين على أعمالهم.

ثالثًا: الكبر

قال الله تعالى:

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴾

القصص: ٣٨ -٣٩

وقال فرعون لأشراف قومه: يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري يستحق العبادة، فأشْعِل لي -يا هامان- على الطين نارًا، حتى يشتد، وابْنِ لي بناء عاليًا؛ لعلي أنظر إلى معبود موسى الذي يعبده ويدعو إلى عبادته، وإني لأظنه فيما يقول من الكاذبين. واستعلى فرعون وجنوده في أرض “مصر” بغير الحق عن تصديق موسى واتِّباعه على ما دعاهم إليه، وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يبعثون.

وقد وردت آيةٌ أخرى تبيّن صرف الله تعالى المتكبرين عن التدبر في آيات الله تعالى .

قال الله تعالى:

﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾

الأعراف: ١٤٦

سأصرف عن فَهْم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي، والمتكبرين على الناس بغير الحق، فلا يتبعون نبيًا ولا يصغون إليه لتكبرهم، وإنْ يَرَ هؤلاء المتكبرون عن الإيمان كل آية لا يؤمنوا بها لإعراضهم ومحادَّتهم لله ورسوله، وإن يروا طريق الصلاح لا يتخذوه طريقًا، وإن يروا طريق الضلال، أي الكفر يتخذوه طريقًا ودينًا؛ وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وغفلتهم عن النظر فيها والتفكر في دلالاتها.

رابعًا: ارتكاب المعاصي

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ . فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ  أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ . فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ . فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ . فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾

الأعراف: ١٣٠-١٣٦

ولقد ابتلينا فرعون وقومه بالقحط والجدب، ونَقْص ثمارهم وغَلاتهم؛ ليتذكروا، وينزجروا عن ضلالاتهم، ويفزعوا إلى ربهم بالتوبة. فإذا جاء فرعونَ وقومَه الخِصْبُ والرزقُ قالوا: هذا لنا بما نستحقه، وإن يُصِبْهم جدب وقحط يتشاءموا، ويقولوا: هذا بسبب موسى ومَن معه. ألا إنَّ ما يصيبهم من الجدب والقحط إنما هو بقضاء الله وقدره، وبسبب ذنوبهم وكفرهم، ولكن أكثر قوم فرعون لا يعلمون ذلك؛ لانغمارهم في الجهل والضلال. وقال قوم فرعون لموسى: أي آية تأتِنا بها، ودلالة وحجة أقمتها لتصرفنا عما نحن عليه من دين فرعون، فما نحن لك بمصدِّقين. فأرسلنا عليهم سيلا جارفًا أغرق الزروع والثمار، وأرسلنا الجراد، فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم، وأرسلنا القُمَّل الذي يفسد الثمار ويقضي على الحيوان والنبات، وأرسلنا الضفادع فملأت آنيتهم وأطعمتهم ومضاجعهم، وأرسلنا أيضًا الدم فصارت أنهارهم وآبارهم دمًا، ولم يجدوا ماء صالحًا للشرب، هذه آيات من آيات الله لا يقدر عليها غيره، مفرقات بعضها عن بعض، ومع كل هذا ترفَّع قوم فرعون، فاستكبروا عن الإيمان بالله، وكانوا قومًا يعملون بما ينهى الله عنه من المعاصي والفسق عتوًّا وتمردًا. ولما نزل العذاب على فرعون وقومه فزعوا إلى موسى وقالوا: يا موسى ادع لنا ربك بما أوحى به إليك مِن رَفْع العذاب بالتوبة، لئن رفعت عنا العذاب الذي نحن فيه لنصدِّقنَّ بما جئت به، ونتبع ما دعوت إليه، ولنطلقنَّ معك بني إسرائيل، فلا نمنعهم من أن يذهبوا حيث شاؤوا. فلما رفع الله عنهم العذاب الذى أنزله بهم إلى أجلٍ هم بالغوه لا محالة فيعذبون فيه، لا ينفعهم ما تقدَّم لهم من الإمهال وكَشْفِ العذاب إلى حلوله، إذا هم ينقضون عهودهم التي عاهدوا عليها ربهم وموسى، ويقيمون على كفرهم وضلالهم. فانتقمنا منهم حين جاء الأجل المحدد لإهلاكهم، وذلك بإحلال نقمتنا عليهم، وهي إغراقهم في البحر؛ بسبب تكذيبهم بالمعجزات التي ظهرت على يد موسى، وكانوا عن هذه المعجزات غافلين، وتلك الغفلة هي سبب التكذيب.

خامسًا: زيغ القلوب

قال الله تعالى:

﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾

آل عمران: ٧

هو وحده الذي أنزل عليك القرآن: منه آيات واضحات الدلالة، هن أصل الكتاب الذي يُرجع إليه عند الاشتباه، ويُرَدُّ ما خالفه إليه، ومنه آيات أخر متشابهات تحتمل بعض المعاني، لا يتعيَّن المراد منها إلا بضمها إلى المحكم، فأصحاب القلوب المريضة الزائغة، لسوء قصدهم يتبعون هذه الآيات المتشابهات وحدها؛ ليثيروا الشبهات عند الناس، كي يضلوهم، ولتأويلهم لها على مذاهبهم الباطلة. ولا يعلم حقيقة معاني هذه الآيات إلا الله. والمتمكنون في العلم يقولون: آمنا بهذا القرآن، كله قد جاءنا من عند ربنا على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويردُّون متشابهه إلى محكمه، وإنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها الصحيح أولو العقول السليمة.

ومعلومٌ أن القرآن الكريم كله محكمٌ إحكامًا عامًّا

قال الله تعالى:

﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾

هود: ١

كما أن القرآن الكريم كله متشابهٌ؛ إذ إنه يشبه بعضه بعضًا في الإحكام والإتقان .

قال الله تعالى:

﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ  وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾

الزّمر: ٢٣

سادسًا: التعصب والتقليد

قال الله تعالى:

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾

البقرة: ١٧٠

حيث إن هذه الآية تأتي في سياق الحديث عن كفار قريش، فتبيّن أن الله تعالى ذمّهم بأنهم أبطلوا ما خص الله تعالى به الإنسان من الفكر والرويّة، وركزه فيه من المعارف، وذلك أن الله تعالى ميّز الإنسان بالفكر؛ ليعرف به الخير من الشر في الاعتقاد، والصدق من الكذب في المقال، والجميل من القبيح في الفعال ، فحال الكافرين إذا قيل لهم -من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم : اتّبعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن، يقولون: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا؛ فهم كانوا أفضل وأعلم منا، ثم تأتي الفاصلة القرآنية في هذه الآية لتبيّن في تساؤلٍ غرضه التوبيخ، كيف يتبعون آباءهم، وآباؤهم لا يعقلون شيئًا، فهم كانوا جهّالًا لا يعرفون شيئًا من أمور الدين، لعدم تعقّلهم.

قال الله تعالى:

﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾

المؤمنون: ٦٨

أفلم يتدبّروا هذا القرآن الذي خوطبوا به، بل جاءهم ما لا عهد لآبائهم به، ولذلك أنكروه وتركوا التدبر به.

سابعًا: تعطيل أدوات التدبر

قال الله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ  أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾

الأعراف: ١٧٩

ولقد خلقنا للنار -التي يعذِّب الله فيها مَن يستحق العذاب في الآخرة – كثيرًا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يعقلون بها، فلا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا، ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته، ولهم آذان لا يسمعون بها آيات كتاب الله فيتفكروا فيها، هؤلاء كالبهائم التي لا تَفْقَهُ ما يقال لها، ولا تفهم ما تبصره، ولا تعقل بقلوبها الخير والشر فتميز بينهما، بل هم أضل منها؛ لأن البهائم تبصر منافعها ومضارها وتتبع راعيها، وهم بخلاف ذلك، أولئك هم الغافلون عن الإيمان بالله وطاعته.

ثامنا – الغفلة

قال الله تعالى:

( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ )

الأنبياء 2 -3

لو تأملنا الآية لوجدنا أن أعظم مانع من تدبر القرآن هو الغفلة وأن الإعراض سبب الغفلة ، فالقلب الغافل بسبب اللهو والانشغال بالدنيا لايتدبر ؛ فصاحب هذا القلب يستمع القرآن بإذنه ، ولكنه لا يصل إلى قلبه ، لأن حضور القلب وصفاءه يجعل صاحبه يرى معاني القرآن بوضوح ، ويحيا بها عملاً وسلوكاًودعوة وتربية .

8- أساليب القرآن في

    الحث على تدبرّه

تنوعت أساليب القرآن الكريم في الحث على تدبّره؛ وهذا بيان لهذه الأساليب، من خلال ما يأتي:

أولًا: الحض على التدبر

قال الله تعالى:

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾

النساء: ٨٢

أفلا يتدبّرون بنظرهم في الأمر إلى آخره، وبالتفكير في هذا القرآن الذي ليس فيه تناقض ولا تفاوت؛ إذ لو كان من عند غير الله تعالى مهما عظمت فصاحته- لما استطاع هذا المفتري على القرآن أن يخبر عن الغيب أو غيره مما هو في القرآن؛ بل لوجد الناس بعضه صدقًا، ومعظمه كذبًا. ولا شكّ أن هذه الآية الكريمة كافية للمؤمن المخاطب بها بطريقة غير مباشرة؛ كي تكون زادًا له في الحث على تدبّر القرآن الكريم آيةً آيةً، بل كلمةً كلمةً، كيف لا؟! وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد.

ثانيًا: جعل التدبّر حكمة إنزال القرآن

قال الله تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ . أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ . كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾

ص: ٢٧-٢٩

فقد بيّنت الآيات السابقة أن الله تعالى لم يخلق السماء والأرض وما بينهما هزلًا ولعبًا، وأن ذلك حسبان الذين كفروا؛ فهم الذين أعدّ الله تعالى لهم ويلًا ونارًا، وتساءلت الآية السابقة سؤالًا غرضه التقرير للمؤمنين، والتوبيخ للكافرين، وذلك بقوله: أنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم نجعل أصحاب محمد عليه السلام المتقين كالكفار، وتأتي هذه الآية الكريمة بأسلوب استئنافيٍّ؛ لتقرير حقيقةٍ، ألا وهي: أنّ هذا الكتاب الكريم الذي هو القرآن إنما هو منزّلٌ من الله تعالى إلى قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مباركٌ؛ ليتدبّر الناس هذا القرآن، بل يتوجّب عليهم معرفة معانيه، والترتيل لآياته؛ إذ لا يصح التدبر إلا إذا قرئت أحكام التلاوة، وتأتي الفاصلة القرآنية لتبيّن سببًا آخر لإنزال هذا القرآن المبارك، وهو أن يتعظ ويعتبر أصحاب العقول بما فيه من أحكام وهدايات.

9- أنواع التدبر

       في

 القرآن الكريم

للتدبر في القرآن الكريم أنواع منها ..

1ـ معاني المفردات

يتناول معنى الكلمات والمفردات الواردة في القرآن الكريم

2- التدبر الموضعي

يتناول مقطعا أو موضعا بالتأمل العميق، كأن يتناول جزءا من آية، أو آية، أو مجموعة من الآيات.

3- التدبر الموضوعي

ويتناول موضوعا كاملا من خلال (جمع) اﻵيات المتعلقة به، كموضوع: (الإيمان)، (النبوة)، (الملائكة)، (العلم)، (السماء)، (الأرض).

4- التدبر الارتباطي

يتناول مواضيع القرآن المختلفة من حيث ارتباطها ببعضها، كأن يبحث العلاقة بين (الإيمان، والعلم، والعمل الصالح)  فيصل ـ مثلاً ـ إلى أنّ الإيمان يحث على العلم، ، والعلم يقود إلى الإيمان،  ويترتب علي الإيمان العمل الصالح،  كما ينتج عن العلم العمل .

5ـ التدبر الكوني

يتناول جميع مضمون القرآن فيما يتعلق بعالم الوجود، ويربط كتاب التدوين (القرآن) بكتاب التكوين (الكون)، وينظر إليهما معاً، ويفسّرهما من حيث ارتباطهما ببعضهما .

 

 

Share This