مفهوم البخس في القرآن الكريم

1- مفهوم البخس

البخس هو نقص حقوق الناس ظلمًا .

قال اللهُ تعالى :

( وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ )

الشعراء:183

البخس النقص وهو يكون في السلعة بالتعيب والتزهيد فيها أو المخادعة عن القيمة والاحتيال في التزيد في الكيل والنقصان منه، وكل ذلك من أكل المال بالباطل .

2- كلمة البخس

       في

القرآن الكريم

وردت كلمة (بخس) في القرآن الكريم ٧ مرات.  والصيغ التي وردت هي:

– الفعل المضارع

ورد ٥ مرات

قال اللهُ تعالى :

﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾

البقرة: ٢٧٢

– المصدر

ورد  مرتين

قال اللهُ تعالى :

﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾

يوسف : 20

وجاء البخس في القرآن الكريم بمعني نقص الشيء على سبيل الظلم.

3- الكلمات ذات الصلة

    بكلمة البخس

– النقص

النقص هو ذهاب بعض من الشيء بعد تمامه ، وهو خلاف الزيادة.

قال اللهُ تعالى :

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾

البقرة: ١٥٥

– التطفيف

تقليل نصيب المكيل له في إيفائه واستيفائه .

قال اللهُ تعالى :

﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾

المطففين: ١- ٣

– الغبن

بيع الشيء بأكثر مما يساوي ، أو بأقل مما يساوي .

– القسط

النصيب بالعدل

قال اللهُ تعالى :

﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾

الأنعام: 152

وأوفوا الكيل والوزن بالعدل الذي يكون به تمام الوفاء.

4 – أساليب القرآن في ذم البخس

البخس محرم لكونه ظلمًا وتعديًا على حق الغير، وقد نهى القرآن الكريم عنه بطرق متعددة ، نذكر منها ما يلي :

1- تنزيه الله تعالى عنه

صرح القرآن الكريم بتنزيه الله تعالى عن البخس في الدنيا والآخرة، وذلك من آوكد الأساليب في ذم البخس والتنفير عنه .

قال اللهُ تعالى :

﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

هود: ١٥- ١٦

والمعنى: أن من قصد الدنيا بعمله من صلاة وزكاة وغيرها من الأعمال الصالحة فإن الله يجازيه عليها بالنعم في الدنيا، ولا يحق لهم في الآخرة إلا النار. وفي ذلك دلالة على أن الله تعالى لا يبخس أحدًا أجره، ولو كان كافرًا أو عاصيًا، وذلك من كمال عدله جل شأنه، فالبخس صفة ذمٍ، تنزه الحق تعالى عنه.

قال اللهُ تعالى :

﴿ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ﴾

الجن: ١٣

والآية الكريمة إخبار عن قول الجن إذ استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنا لما سمعنا الهدى – وهو القرآن الكريم – سارعنا إلى التصديق به والإذعان له، فمن يؤمن من الجن والإنس بربه فلا يخاف أن يبخس من حسناته شيئًا، ولا أن يحمل عليه من سيئات غيره.

2- النهي عنه

نهى الله تعالى عن البخس في القرآن الكريم، والنهي عن الشيء يستلزم قبحه شرعًا . وقد جاء النهي الصريح عن البخس في مواضع، هي

أ-  ما ورد في سياق آية المداينة

فالنهي عن البخس وردٌ في سياق الأمر بتوثيق الدين بالكتابة حفظًا للحقوق، وحسمًا للنزاع.

قال اللهُ تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾

البقرة: ٢٨٢

يا أيها الذين آمنوا إذا تعاملتم بدَيْن إلى وقت معلوم فاكتبوه؛ حفظًا للمال ودفعًا للنزاع . ولْيقُم بالكتابة رجل أمين ضابط، ولا يمتنع مَن علَّمه الله الكتابة عن ذلك، ولْيقم المدين بإملاء ما عليه من الدَّيْن، وليراقب ربه، ولا ينقص من دينه شيئا.

ب – ما ورد في قصة نبي الله شعيب عليه السلام

بعث الله تعالى نبيه شعيبًا عليه السلام إلى مدين ، وكانوا في رغد من العيش، ومع ذلك نقصوا الكيل والميزان، وبخسوا الناس أشياءهم، وسعوا في الأرض فسادًا، فأمرهم نبي الله شعيب عليه السلام بعبادة الله وحده، وترك ما هم عليه من صور الظلم والفساد، ولنقف مع الآيات التي ورد فيها النهي عن البخس إجمالًا .

قال اللهُ تعالى :

﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ  فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

الأعراف: ٨٥

﴿ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ . بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾

هود: ٨5-٨٦

﴿ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ . وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ . وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾

الشعراء: ١٨١-١٨٣

فالآيات السابقة اشتملت على النهي عن البخس بأبلغ الأساليب وأدقها .

3- الأمر بضده

القرآن الكريم قد ذم البخس بالأمر بما هو ضده، حيث أمر الله تعالى بإقامة العدل بين الناس بوجه عام، وإيفاء الكيل والميزان بوجه خاص.

أ – الأمر بإيفاء الكيل والوزن

فقد أمر الله تعالى بإيفاء الكيل والميزان

قال اللهُ تعالى :

﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾

الأنعام: ١٥٢

وأوفوا الكيل والوزن بالعدل الذي يكون به تمام الوفاء. وإذا بذلتم جهدكم فلا حرج عليكم فيما قد يكون من نقص، لا نكلف نفسًا إلا وسعها.

ب – الأمر بالعدل

فقد أمر الله بإقامة العدل في أكثر من آية ، منها

قال اللهُ تعالى :

﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾

الحديد: ٢٥

لقد أرسلنا رسلنا بالحجج الواضحات، وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، وأنزلنا الميزان؛ لتعاملوا بينهم بالنصفة والعدل، وهو نهي عن الجور والظلم، وقد عرفت أن البخس ظلمٌ، فتضمنت الآية النهي عنه.

قال اللهُ تعالى :

﴿ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴾

الرحمن: ٩

لئلا تعتدوا وتخونوا مَن وَزَنتم له، وأقيموا الوزن بالعدل، ولا تُنْقِصوا الميزان إذا وَزَنتم للناس.

والخلاصة أن الله أمر بما يتنافى مع البخس ليتضمن النهي عن البخس؛ تأكيد للنهي عنه.

5 – صور البخس

     في

القرآن الكريم

أكثر الآيات التي ورد فيها النهي عن البخس في القرآن الكريم تدور حول الحقوق بين الناس ، والمراد بالحقوق هي ما ثبت للإنسان شرعًا من مما لا تتحقق إنسانيته إلا بها ، فإن كانت هذا ما ثبت له ماديًا نحو المال فهي حقوق مادية، وإن كان معنويًا كالحرية والأمن فهي حقوق معنوية.

أولًا – الحقوق المادية

إن انتقاص شيء من تلك الحقوق بأي صورة من الصور حرام؛ لأن فيها إهدارًا لحقوق الإنسان وإضرارًا به، ويمكن تعداد تلك الصور فيما يلي:

أ – التطفيف

أحد أساليب بخس الناس أموالهم وأكثرها شيوعيًا قديمًا وحديثًا، لا سيما في البيع والشراء، حيث يكون بالازدياد إن اقتضى من الناس، أو بالنقصان إن قضاهم، وقد توعد الله تعالى المطففين بالويل .

قال اللهُ تعالى :

﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾

المطففين: ١-٣

ب – الغلول

لم يكن البخس قاصرًا على الاحتيال لأخذ أموال الناس فرادى، وإنما يشمل الاحتيال لأخذ شيء من أموال الأمة، وذلك مثل ما يأخذه الولاة والعمال من أموال الدولة بغير حق، كهدية تعطى إليه ، أو مال يتقاضاه بدون حق. فذلك كله خيانة وخديعة لأكل أموال الناس بالباطل .

قال الله تعالى:

﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾

آل عمران: ١٦١

3- الغش

الغش هو إظهار الشيء على خلاف حقيقته . وهو حرام؛ إذ إنه ضرب من الاحتيال والمكر؛ لأكل أموال الناس بالباطل

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾

النساء: ٢٩

يا أيها الذين آمنوا ، لا يحل لكم أن يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، إلا أن يكون وَفْقَ الشرع والكسب الحلال عن تراض منكم .

4- الرشوة

قال الله تعالى:

﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

البقرة: ١٨٨

ولا يأكل بعضكم مال بعض بسبب الرشوة ونحو ذلك، ولا تلقوا بالحجج الباطلة إلى الحكام؛ لتأكلوا عن طريق التخاصم أموال طائفة من الناس بالباطل، وأنتم تعلمون تحريم ذلك عليكم.

5- المماطله في أداء الحق

تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر، فيحرم على الغني القادر أن يمطل بالدين بعد استحقاقه .

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾

البقرة: ٢٨٢

فقد نهى الله المدين أن يتحايل – إذ يملي على الكاتب- بشيءٍ يتخذه تكأةً في بخس الدائن حقه، وذلك فيشمل – من باب أولى- مماطلته حين يستوجب أداء ما عليه؛ فإن فيه ضررًا بصاحب الدين .

ثانيا – الحقوق المعنوية

انتقاص الإنسان أي حق من الحقوق المعنوية التي خولتها له الشريعة الإسلامية مما لا تتحقق آدميته إلا بها إنما هو بخس، من تلك الحقوق ما يلي:

1- حق الأمن

إن الأمن – بمفهومه الواسع- هو أهم حق من حقوق الإنسان في الحياة، وهو بمثابة الركن الرئيس في البناء الحضاري، ومن ثم اهتم به الإسلام غاية الاهتمام إذ جعل سلامة الناس وتأمينهم من كمال الإسلام والإيمان.

قال الله تعالى:

﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا ﴾

البقرة : 126

﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا ﴾

إبراهيم : 35

واذكر – أيها النبي- حين قال إبراهيم داعيًا: ربِّ اجعل “مكة” بلدَ أمنٍ يأمن كل مَن فيها .

فترويع الإنسان في نفسه أو في عرضه وولده أو في ماله بأي صورة من الصور الترويع والتخويف بخس وتعدٍ وظلم، سواء كان الإنسان مسلمًا أو غير مسلم .

قال الله تعالى:

﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾

التوبة : 6

وإذا طلب أحد من المشركين الذين استبيحت دماؤهم وأموالهم الدخول في جوارك – أيها الرسول- ورغب في الأمان، فأجبه إلى طلبه حتى يسمع القرآن الكريم ويطَّلع على هدايته، ثم أَعِدْه من حيث أتى آمنًا .

2- الحرية

فالحرية في الإسلام حقٌ مصونٌ للإنسان في كافة ميادينها، والتي منها حرية التفكير، وحرية الرأي والتعبير، وحرية التجمع، وحرية الحركة ، حيث جعلها مناط المسئولية .

قال الله تعالى:

﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾

البلد: ١٠

والمعنى: أنا بينا للإنسان طريق الخير ومآله، وطريق الشر وعاقبته، ليختار هو ما يجني ثماره أو ما يتحمل تبعاته.

قال الله تعالى:

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾

البقرة: ٢٥٦

﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾

يونس: ٩٩

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾

الكهف: 29

فالحرية المنضبطة حقٌ للناس، فإكراههم على أمر انتقاصٌ لهم، وبخسٌ لحقوقهم، وقد نهى الله تعالى إكراه الناس على أجل الأمور وأنفعها، وهي الإيمان بالله .

6 – البخس في ثواب الأعمال

تضافرت نصوص القرآن الكريم على ربط الجزاء بالأعمال في الدنيا والآخرة، فمن عمل خيرًا،ٍ وفاه الله أجره، وقد تنزه الحق -جل شأنه- أن يبخس عاملًا أجره في الدنيا أو الآخرة، فمن عمل خيرًا وفاه أجره غير منقوص.

قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾

النساء: ٤٠

أي: إن الله لا يبخس عاملًا أجره وثوابه بأقل ما يمكن أن يتخيله عقل من بخس، ولو بمقدار مثقال ذرة؛ فإن ذلك ظلم، والله تعالى منزه عنه، والآية عامة في كل من عمل خيرًا، مؤمنًا كان أو كافرًا.

أ – أجر الكافر

﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

هود: ١٥- ١٦

فمن عمل من الكفار خيرًا -مما لا تشترط فيه النية كالابتكارات العلمية النافعة، ونصرة المظلومين، وإعانة المحتاجين، وإكرام الضيفان، والرفق بالحيوان، وكل ما يسمى اليوم بالأعمال الإنسانية- فإن الله سبحانه وتعالى يعجل لهم في الدنيا ثمرات أعمالهم وافية غير منقوصة . أما في الآخرة فلا نصيب لهم إلا النار؛ إذ لم تكن أعمالهم مصحوبةً بالإيمان.

قال الله تعالى:

﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾

الشورى: ٢٠

ب – أجر المؤمنين

أما المؤمن فإن الله يجمع له بين خيري الدنيا والآخرة جزاء على ما قدم من عمل يبتغي به وجه الله .

قال الله تعالى:

﴿ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ﴾

الجن: ١٣

فمن يؤمن بربه، فإنه لا يخشى نقصانًا من حسناته، ولا ظلمًا يلحقه بزيادة في سيئاته.

قال الله تعالى:

﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾

طه: ١١٢

ومن يعمل صالحات الأعمال وهو مؤمن بربه، فلا يخاف ظلمًا بزيادة سيئاته، ولا هضمًا بنقص حسناته.

6 – أسباب البخس

للبخس أسباب تتمثل فيما يلي:

1- ضعف الوازع الديني

الوازع الديني هو ملكة في النفس تحمل على فعل المأمورات واجتناب المنهيات، فكلما كانت تلك الملكة قوية كانت دواعي الامتثال أوفر، لذلك اقترنت الأوامر والنواهي بالتقوى أمرًا وتعليلًا .

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

البقرة: ٢٧٨

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾

البقرة: ٢٨٢

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

البقرة: ١٨٣

وكلما ضعفت تلك الملكة، كانت الدواعي إلى المعاصي بوجه عام والبخس بوجه خاص أوفر .  فسبب الوقوع في بخس الناس حقوقهم هو ضعف الوازع الديني، لذا كان اقتران النهي عنه بالإيمان بالله تعالى وبالإيمان بالبعث .

قال الله تعالى:

﴿ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

الأعراف: ٨٥

﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ . أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

المطففين: ١- ٦

2- الحرص على المال

كذلك من أسباب البخس الحرص على المال، فإنه يحرك داعي الشهوات في قلب صاحبه بالتنعم في الحلال – ولا حرج فيه -، إلا أنه لا يلبث أن ينسيه ذكر الله ، فيقع في براثن المعاصي ، ويجمع المال من الحلال والحرام تلبيةً لدواعي شهواته ، فيفسد دينه ودنياه ، وذلك هو الشح المذموم .

قال الله تعالى:

﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

الحشر: ٩

فالشح هو الحرص الشديد الذي يحمل المرء على ارتكاب المحارم. فمن وقي نفسه أن يكون الشح خلقا لها فقد أفلح .

3- الاستبداد

الاستبداد هو حكم أو نظام يستقل بالسلطة فيه فرد أو مجموعة من الأفراد دون خضوع لقانون أو قاعدة ودون النظر إلى رأس المحكومين. فإذا كان الاستبداد سبيلًا لبخس الناس أشياءهم، فإن الشورى في الحكم واتخاذ القرار هي السبيل لنيل كل ذي حق حقه إنصافًا وعدلًا وتمتعه به، وهو ما أسسه الإسلام بتعاليمه الخالدة .

قال الله تعالى:

﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾

آل عمران: ١٥٩

﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ﴾

الشورى: ٣٨

وأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها، وإذا أرادوا أمرًا تشاوروا فيه

7 – مضار انتشار البخس

     في المجتمع

إن انتشار البخس في مجتمع من المجتمعات يؤدي إلى كوارث إنسانية واجتماعية واقتصادية، تتمثل فيما يلي:

1- الكوارث الطبيعية

ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا وبما شهد به في كتابه أن المعاصي سبب المصائب، فسيئات المصائب والجزاء من سيئات الأعمال، وأن الطاعة سبب النعمة، فإحسان العمل سبب لإحسان الله.

قال الله تعالى:

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾

الشورى: ٣٠

﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾

النساء: ٧٩

2- بث روح العداء بين أفراد المجتمع

إن بخس الناس أموالهم يسبب اضطرابًا نفسيًا في النفوس، فهو بالنسبة للباخسين يولد حالة من الجشع في نفوسهم والطمع فيما في أيدي غيرهم، وبالنسبة للمبخوسين فإنه يتسبب في حالة من الأسى والأسف على ما ضاع من أموالهم وأهدر من جهدهم.

إن تلك الحالة لدى هؤلاء وهؤلاء تورث في نفوسهم جميعًا الشحناء والعداء، وما يلبثون أن يشيع بينهم التقاتل وسفك. ومن أجل ذلك اقترن في القرآن الكريم أكل أموال الناس بالباطل بسفك الدماء .

قال الله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾

النساء: ٢٩

فالقتل وتدمير الحياة العامة هو النتيجة الحتمية الذي يؤول إليه شيوع المعاملات الباطلة وأكل أموال الناس بغير وجه مشروع .

 

Share This